الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

21‏ أغسطس 2017
الذكرى الثانية لرحيل الكاتب والمفكر  محمد سعيد ولد همدي


نضع بين يدي القارئ مقاطع من قراءة  له في قصيدة '' السفين '' للشاعر أحمدو ولد عبد القادر

كتب المرحوم محمد سعيد ولد همدي:
....

ومع أني لا أحب أن أطيل على القارئ، إلا أنني أجد نفسي منساقا إلى تقديم شذرات من "سوسيولوجيا البيظان" وهي شذرات يعرفها الكثير من القراء إلا أن التذكير بها لا يخلو من أهمية.
فقد كان المجتمع الحساني في أول أمره قائما على ثنائية نخبوية غير واضحة المعالم، هي الثنائية: (حسان -الطلبة)  ويظهر هذا البناء الاجتماعي –لأول وهلة- بمظهر الصلابة والتماسك وذلك بفضل التحالف (أو التواطؤ) بين السيف والقلم.
وتحت هذه الزعامة ذات الرأسين، ولدت البنية الاجتماعية الهرمية التي كانت منبوذة من قبل نظام لا يعترف بالوجود لغير الزعيم، أي أن الوجود مرادف للنفوذ (لخلوگية).
فالمحاربون حملة السلاح، و"المرابطون" حملة القلم: كانوا يحكمون مجتمعا كامل الخضوع لطاعتهم بفضل الله وقوة العضلات، فالبسالة المنسوبة للمحاربين والقداسة المنسوبة للمرابطين كانتا بمثابة "إيديولوجية" للنظام ومبرر للطاعة والولاء. وفي مثل هذا المجتمع الإقطاعي يكون النظام جامدا أزليا. وتمتدح الشجاعة الجسدية والمهارة والجلد. ومن النادر إعطاء نفس الاعتبار للتقوى وغيرها من المحامد المعنوية.
وعندما يظهر شاعر فيلسوف يسخر من القوة الزائلة ويتمنى - بحس ديمقراطي سابق لأوانه- زوال نظام القهر والعنف... عندما يظهر مثل هذا الشاعر، يتعرض للازدراء والسخرية، حتى ولو كان – بالإضافة إلى مواهبه الشعرية- أمير منطقة "آدرار". إن هذا المجمع القائم على العنف لا يستطيع تحمل الاستماع إلى أمير البلاد وهو يسخر من النظام القائم:
"درجتنا ألاله اطيحها".. حتى ولو كان الفرد أميرا، فمن الخطورة أن يأتي قبل زمانه. وفي زمان هذا الأمير كان المحاربون يملكون مالهم وما لغيرهم كل شيء بالنسبة لهم مباح ( مواشي الآخرين، نخيلهم... التمتع بنسائهم... وغير ذلك).
أما "الزوايا" الذين كانوا يستفيدون من "الغنائم" فقد كانوا يباركون هذا النهب ويغدقون في تقديم التمائم التي يعلقها "المحاربون" على صدروهم كأنها النياشين. ولكن سلطة المحاربين لم تتجاوز هذا المستوى المظهري الذي كان يجلب إليهم سخط الفئات المسحوقة ولعناتها" أما "المرابطون" فقد كانوا يمسكون بالمقاليد الحقيقية للسلطة، لأنهم كانوا يتنكرون لهم ويتولون تعليم النصوص الدينية المقدسة، كما كان لهم وحدهم حق ادعاء السيطرة على الشياطين. وغيرها من قوى الشر. ورغم أن هؤلاء "المرابطين" كانوا محل سخط الجميع، إلا أنهم كانوا مخوفين، حتى "سادتهم " المحاربون كانوا يخافونهم.
وكان لهذه النخبة الثنائية الزعامة أخلاقيات خاصة تعود أصولها إلى عصر الجاهلية العربية كما تشبه حالة أوروبا في العصور الوسطى. فقد كان من المخجل –مثلا- أن يسرق المرء مالا زهيدا. أما الإغارة على قطيع بأكمله فقد كانت محل فخر واعتزاز.
وعندما يلحق المحارب أذى بأحد "رجال القلم" فإن ذلك يعتبر مثلمة، أما إذا عذب سكان حي من "اللحمة" وجردهم من جميع ممتلكاتهم فباستطاعته أن يذكر ذلك متباهيا.
ومع هذا فيجب أن لا ننسى أن هذه "القيم" السلبية لم تكن وحدها في الميدان، فقد كانت هناك قيم إيجابية قد تدفع "النبلاء" إلى التراجع عن الكثير من الممارسات الظالمة خضوعا لمقتضيات "البرتوكول" الإقطاعي.
غير أن هذه القيم كلها كانت تخص جماعة نخبوية منعزلة. ولهذه الجماعة تأثيرها الحاسم، لكنها كانت ضئيلة العدد لا تلعب في عملية توفير العيش اليومي للمجموعة إلا دورا ثانويا.
ويعني ما تقدم أن تاريخ شعبنا ليس تاريخ ملاحم الارستقراطية "العسكرية" و"القلمية" فقط فقد ساهمت فيه كذلك، وبشكل مؤثر فئات "المحراث" و "المحلاب" و"الصابرة" و"السندان".
هذه الفئات التي شكلت طبقة "الدهماء" في المجتمع الموريتاني التقليدي، أين كان موقفها في السلم الاجتماعي عشية التغلغل الأجنبي الاستعماري؟
أما طبقتا "إيگاون" و"الحرفيين" فقد كان عددهما قليلا مع توزعهما عبر القبائل والأفخاذ. ولذلك فقد تمتعتا بمكانة خاصة، لكنها غامضة.
فإيگاون، وهم مستودع الأسرار ورسل الحرب والسلام، كانوا يساهمون في الحياة السياسية للإمارات الحسانية، مستخدمين أسلحة حدادا هي ألسنتهم الذرية، وهم في الغالب ذووا علم ولباقة مما مكنهم من المساهمة في أنشطة في المؤامرات السياسية التي كان مكانها المفضل هو "خيمة أبكير" ولإيگاون دور آخر من كل هذا بكثير، فأشعارهم "أشوارهم" هي مرجعنا الأصلي الوحيد حول التاريخ "الحساني" وذلك على الرغم مما يشوبها من اختلاط الوقائع التاريخية بالتصورات الأسطورية والتزوير المقصود الذي يقوم "الشاعر- المطرب-" ليغطي ممدوحه صورة مزيفة بالمعنى القاموسي لهذه لكلمة.
أما الحداد. هذا الفنان الحرفي، فلم يكن له أن يطمح إلى نفس مكانة "المرابطين" فبالرغم من ثقافته الواسعة أحيانا، وتقنيته النادرة، وحاجة المجتمع الشديدة إلى خبرته، على الرغم من كل هذه المزايا، كان الحداد مذنبا دوما لأنه يحمل على كاهله أوزار بني إسرائيل. وقد كان النسابون يتطوعون لاكتشاف أصول يهودية، حقيقية أو خيالية، لهذه المجموعة، ولا ينفع هؤلاء المساكين علمهم ولا تقواهم، فالمثل الحساني يحكم ظلما بأنه "لا خير في الحداد ولو كان عالما". أما شهادته فهي مردودة دائما، رغم أن الشهادة في المجتمع التقليدي كانت مناط صحة العقود ورمز اكتمال الإنسانية والرجولة.
وقليل ما يمكن قوله حول "أزناگه". هؤلاء التابعين من الدرجة الثالثة، ذلك أن وضعيتهم شبيهة مع بعض الفروق، بوضعية المنبوذين في الديانة الهندوسية وهم خاضعون للمغارم والسخرة ولا يسمح لهم بممارسة غير المهن "القذرة" واندمجت في فئة "أزناگه" مجموعات من الصيادين البريين والبحريين (النمادي وإيمراگن) قدر لها أن تعيش حياة حرة مستقلة مع أنها حياة تافهة.
وباستثناء "إيمراگن" ذوي السحنة الزنجية البارزة، تتشابه كل هذه الفئات المسحوقة، من حيث ميزاتها الجسدية، مع الطبقة المسيطرة، وهذا ما مكن الكثير من أعضاء هذه الفئات من التسلل بطريقة أو أخرى، إلى عضوية الطبقة المسيطرة.
ولا يمكن لمجموعة "السودان" الناطقة بالحسانية أن تستفيد من مثل هذه الفرصة، ومن حاول ذلك من السودانيين فإن سماته الجسدية ستنم عن أصله.
إنها لعنة "حام بن نوح" هذا الولد العاق الذي وضع اللوح على رأسه فسال المداد على جسده ليصبغه بالسواد صبغة أبدية.
هذه الخصائص المتميزة أعطت هذه المجموعة وحدتها، رغم تنوع مكوناتها. وعلى عكس الفئات الهامشية، فإن لهذه الفئة كما عدديا كبيرا يجعلها المجموعة الأكبر، مقارنة مع غيرها من مكونات المجتمع "الحساني" والأكثر مساهمة فهي تمد هذا المجتمع بمقومات البقاء.
وإذا كانت هذه الفئة لم تحقق مآثرها التاريخية في "المحاظر" أو في ميادين القتال، فإنها قد حققتها في "القصور" والمضارب وكذلك في "آدوابه" شمامة والعصابة و"غراير" الشمال في "يغرف" و "دمان" وفي "التامورت" أو في "آدروم".
وإذا كان الفن الحساني كغيره من الفنون يعتبر تاريخا رومنطيقيا يعبر من روح الشعب الحقيقة فمن المدهش أن نلاحظ هذا التوازن الفني المساير لتقسيم المجموعة الحسانية إلى "بيظان" و "سودان" فالـ "آردين" و"التيدنيت" يعبران بالنغمات الحلوة والنبرات الفنية المحكمة عن جانب من تراثنا الموسيقي.
أما الجانب الآخر من هذا التراث فتعبر عنه النبرات الموحية لآلة "النيفارة" والإيقاع الفخم الهادئ لطبل "الرزام". وإلى جانب "الاشوار الزُمنية" لفن "أزوان البيظان" توجد "الأشوار السودانية" ذات النغمات البريئة والمحتوى الصريح، ويتم أداء هذه "الأشوار" في وقت متأخر من الليل مثل موسيقى (الابتهالات الزنجية Negro-spirituals) في أميركا. أما المحتوى فهو تعبير عن آلام هذه المجموعة وأحلامها المستحيلة.
وتبدأ هذه "الأشوار" بعد يوم من العمل المرهق ثم تشتد وتيرة الغناء شيئا فشيئا حين يغط الأسياد في نومهم العميق يطرد الكوابيس عنهم عمل العبيد في الحقول والمطابخ مرورا بالرحاة أو "المدقة والمهراس" ، المرعى والبئر...
وتخفت النغمات عندما يتلاشى وميض النار الموقدة عند نهاية الحفل الذي ينتهي بآهات بائسة محتضرة يثيرها الحنين وعذاب اليتم والاستلاب والغربة. أناشيد غير عادية قيمة.. هذه الحوارات السحرية التي تغذيها الروح العدوانية لدى السيد المستبد، والتعذيب الجسدي واللفظي، وغضب السيدة وغيرتها، وتتغذى من صعوبة الحياة اليومية والجوع، وبكلمة واحدة: اللاوجود.
والناي هذه الآلة ذات النغم السحري الذي يربط الراعي - متجاوزا الزمان والمكان - بأصوله المنسية أويعيده إليها بواسطة نفثات شجية تسحر الإنسان الراعي والحيوان المرعي فيتضامنان في مواجهة قاهرهما.
إن هذه الموسيقى "السودانية" الليلية العجيبة ذات الطابع الحالم المؤلم ليست في النهاية إلا تعبيرا عن فظاعة الحياة لهؤلاء المستضعفين الذين يحاولون اقتناص لحظات ليلية من أعمارهم التي يملكها أسياد الحياة النهارية.
وعلى الرغم من المظاهر فإن الموسيقى تعبير أليم عن ذاتية ثاوية ترفض المسخ والذوبان وتقاومهما بأساليب قد تكون ملتوية ولكنها –على كل حال- معبرة. وشبيه بذلك ما كان البعض يستغربون من قوة تحمل "السوداني" وتقبله العقاب بصدر رحب، بل وبسخرية في بعض الأحيان، ولكن هذا ليس إلا نوعا من ازدواج الشخصية يضطر (المضطهد) لتمثيله كي يستطيع تحمل حياته اللاانسانية.
وقد كان ذوو الذوق الرفيع يستهجنون قهقهة العبيد ويعزونها إلى خشونة وراثية في الطبع. بيد أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من التمثيل والتظاهر بالبلاهة لطمأنة السيد. إنها الشفاه تضحك، أما القلوب فإنها تنزف آلاما ودما.
أما خشونة أقدام العبيد وأياديهم فما هي إلا دروع لاتقاء الحر والبرد ووخز الأشواك ولدغ الثعابين. هكذا أرغم هؤلاء "السودان" المساكين على العيش في عالم منعزل من الأوهام الساذجة.
وليس هناك من رابط بين عالمهم الوهمي والعالم الحقيقي إلا هذه "الحسانية" التي تتكسر على ألسنتهم مثلما تتكسر "الإنجلزية" على ألسنة أقاربهم من السود الأمريكيين.
إنه عالم من الضياع والعدمية.
بائس عالمكم يا "مبروك" و"مسعود" ويا "مبروكة" و "إسلم عربيها" إنكم غرباء حتى عن أنفسكم وحتى أسماؤكم لا تمتلكونها، بل هي مجرد ابتهالات موجهة إلى العلي القدير لكي يحفظ أسيادكم (ايسلم عربيها) أو ليبارك لهم في أموالهم (مسعود، مبروكه).
إنها حقائق مرة.. لكني أقدمها هنا بدون حقد. ولا أريد توجيه لوم مبالغ فيه لأي كان، فأبناء الضحايا (من مختلف الفئات) وأبناء ظالميهم بالأمس، يشتركون اليوم، هؤلاء وأولئك في تراث واحد ويقاسون المصائب نفسها، ويحملون نفس الآمال. هذا بالإضافة إلى ما يربطهم من علاقات القرابة بالنسب والمصاهرة والرضاعة. والمطلوب هنا، هو أن نغير عقلياتنا حتى نتمكن من تقليب هذه الصفحة المأساوية من تاريخنا ويتطلب ذلك تفكيرا رزينا توجهه إدارة وطنية مسؤولة. ثم يجب أن ننسى أن هذا هو تراثنا بجوانبه المظلمة والمضيئة. وأما هذا الوعي الجديد فإنه ناتج عن الصدمة الاستعمارية. ولذلك لا ينبغي أن نقسو على تاريخنا أكثر من اللازم باستخدام أدوات في التحليل والحكم غريبة عن واقعنا.

كامل الود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  / ومن باب المداعبة، والشيء بالشيء يذكر كان الشريف عبد القادر رجلا صالحا، وكان يفرض على الناس (فِفتنًا) يهدونه له، والفِفتن قطعة نقدية كانت...