الاثنين، 17 فبراير 2025

 غاب الغناء وحضرت الأغاني







كان لي صديق نديّ الصوت أنشدني ذات أنس بليلة أضحيان ونحن بالبادية نصطلي نارا باليفاع تحرق أنشدني من قول امرئ القيس:
جزعتُ ولم أجزع من البين مجزعاً :: وَعزَّيْتُ قلْباً بالكَوَاعِبِ مُولَعا
وَأصْبَحْتُ وَدَّعْتُ الصِّبا غَيْرَ أنّني :: أراقب خلات من العيش أربعا

وكنت بدوري أصبحت ودعت الصبا غير أنني أراقب خلات من العيش منهن هول أژوان، لكنني -ولاني مَقِيس- زهدت في الأوتار بعد قول الإمام الأكبر بداه ولد البصيري برّد الله مضجعه بعدم جوازها عند شرحه لبيت العلامة محمد مولود ولد أحمد فال اليعقوبي (آدَّ) علمًا في نظمه (محارم اللسان)
كذا غناءٌ لحرام داعِ :: وغيرُه يُكرَه كالسّماعِ
فقد أورد قول العراقي في الألفية:
عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ :: لا تُصْغِ (لاِبْنِ حَزْمٍ) المُخَالِفِ

وهنا أنبّه إلى قول العلامة المؤرخ المختار ولد حامد:
فليس على الحُكمِ الخِلافيِ ينبغي :: خلافٌ بل المطلوبُ لينُ العَرائِكِ
فخذْ ما ترى واترك أخاكَ وما يرى :: كلانا إذا ما أنصفَ الدهر مالكي

وقول ابن أخيه العلامة القاضي عبد الله ولد امّين:
قالوا أتلعبُ "مرياصا" فقلت لهم :: أليسَ يوجدُ شيءٌ غير مرياص؟
قالوا ألم تَرها تُبدي العجابَ لنا :: فقلت إني إليكم غيرُ خرَّاصٍ
قالوا ترى لعبَها للهِ معصيةً :: و كل لاعب مرياصٍ له عاص؟
فقلت كلا لعمري لستُ أمنعها :: بل لستُ ألعبها (باطْ آنَ من راصِي)

الليلة ومن تلك الشرفة المطلة على الشاطئ اللازوردي طفق المكان يوغل في المساء، بحر لجي يفصل بيني وبين المنتبذ القصي أرسلت طرفي عبر المدى، و أرجعت البصر خاسئا وهو حسير لمصير ذلك المنتبذ، الذي أحرق أبناءه اليأس فطوحوا ينقبون في البلاد تتعاطاهم المنافي هل من محيص..
يقال إن الحكومات الجيدة إذا لم تخلق الوظائف فإنها تخلق الأمل، وبلدنا يخلق البطالة واليأس.

أعرضت الليلة عن (الهول)، وأبحرت عوضا عنه في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، كنت أقرأ عن الشاعر الأخطل، قال جرير:
أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني، لقد أعِنتُ عليه بكفر وكبر سن وما رأيته إلا خشيت أن يبتلعني.

وقال الأصمعي: أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، وكان الأخطل أسن من جرير.
ولئن أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، فقد أدركنا محمد عبد الرحمن ولد انگذي"حَمَّ" وهو شيخ كبار قد بلغ من الكبر عتيا، كانت انواكشوط حينها مدينة صغيرة تضم كبتال وبلدة لكصر، كان يسكن في نقطة قصية من لكصر تسمى "ماريگو" جنوب شركة "سوكومتال" الآن، كان شيخا هرما منفوش الشعر ثابت الخطوة وقد ظاهر دراعتين بيضاء وزرقاء (امغربي) ،وهو يسدر في أهل لمروَّ بين مرصت لكصر وبعض الحوانيت المتناثرة في البلدة.
كان الوالد يجله ويكرمه وكان يحل مشاكله مع بعض الدائنين وربما جلس معه وأحيانا يستنشده فينشده على امباله (دون أوتار) في اكحال كر بعض مخمسات ابن مهيب فيشجي ذلك الانشاد القوي الشجي النفوس.
كان وقد تقدم به العمر عذب الصوت قويه وكأنما عناه الشيخ ولد مكي بقوله لوالده لعور:
شبنَ واكبرنَ عن ذ اليمْ ::غير الفتى من صنيعُ
يشيبُ كثيرا واتّمْ :: الطباعُ يوافيعُ

نبحر مع أبي الفرج الأصفهاني: .. وكان أبو عمرو يقول لو أدرك الأخطل يوما واحداً من الجاهلية ما فضلت عليه أحداً، وكان مما يقدم به الأخطل على صاحبيه جرير والفرزدق أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن الفحش وقال الأخطل ما هجوت أحداً قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها، وقال عبد الملك بن مروان للأخطل: ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك فقال أطائع أم كاره قال بل طائع، قال ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك إنني إذا لكما قال الشاعر:
كَمُبْتاعٍ ليركبَه حماراً :: تَخَيَّره من الفرس الكبير

ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده فقال قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال اسقوه ماء فقال شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال فاسقوه لبنا قال عن اللبن فطمت، قال فاسقوه عسلا قال شراب المريض، قال فتريد ماذا ؟
قال خمرا يا أمير المؤمنين، قال أوعهدتني اسقي الخمر لا أمّ لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت..
فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر فسقاه فقال اعدلها بأخرى فسقاه أخرى فقال تركتهما يعتركان في بطني اسقني ثالثة فسقاه ثالثة فقال تركتني أمشي على واحدة اعدل ميلي برابعة فسقاه رابعة فدخل على عبد الملك فأنشده:
خَفّ القطينُ فراحوا منك وابتكَروا :: وأزعجتْهم نَوًى في صرفها غِيَرُ
إلى امرئٍ لا تعدّينا نوافلهُ :: أظفرهُ اللهُ، فليهنا لهُ الظفرُ
ألخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُهُ :: خَليفَةِ اللَّهِ يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
والهمُّ بعدَ نجي النفسِ يبعثه :: بالحزْمِ، والأصمعانِ القَلْبُ والحذرُ
وما الفراتُ إذا جاشتْ حوالبهُ :: في حافتيهِ وفي أوساطهِ العشرُ
وذَعْذعَتْهُ رياحُ الصَّيْفِ، واضطرَبتْ :: فوقَ الجآجئ من آذيهِ غدرُ
يوماً، بأجْودَ مِنْهُ، حينَ تَسْألُهُ:: ولا بأجهرَ منهُ، حين يجتهرُ

يروى أن الفرزدق والأخطل ذكرا جريرا؛ فقال له الأخطل: والله إني وإياك لأشعر منه، غير أنه قد أعطي من سيرورة الشعر شيئا ما أعطيه أحد؛ لقد قلت بيتا ما أعرف في الدنيا بيتا أهجى منه:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم :: قالوا لأمّهم بولي على النار
فقال هو:
والتغلبىُ إذا تنحنح للقرى :: حكّ استه وتمثّل الأمثالا
فلم يبق سقّاء ولا أمة إلا رواه.
فقضيا يومئذ لجرير أنه أسير شعرا منهما، جرير شعرُ مرفود.

وكان الحاج اكويمل ولد گوتل وهو حرطاني من تندغه "أهل بوحبيني" في دكار موئل الأدباء والشعراء والقادمين من كل طيف.
كان يضع في صالون بيته دفترا كبيرا يكتب فيه الشعراء أمداحهم له، وذات مقيل قدم دفتره للشاعر محمد ولد ابنو ولد احميدن مستفزا بأن في الدفتر من هو أشعر منه، فكتب له:
أهَاجَت لَكَ الأشجانَ لَمحَةُ بَارِقِ :: وزَورَةُ طَيفٍ مِن أُمَامَةَ طَارِقِ
وذِكرَةُ أيامِ الهَوَى عِندَ ذِي الهُوَى :: لَيَالِيَ لاَ أخشى طُرُوقَ الطَّوَارِقِ
لَيَالِي طَابَ الوَصلُ فِيهَا لِوَاصِلٍ :: وأينَعُ دَوحُ العِشقِ فِيهَا لِعَاشِقِ
وأعطَيتُ فِيهَا مَحضَ وُدِّي أُمَامَةً :: ولَم أكُ ذَا وَجهَينِ مِثلَ المُنَافِقِ
أُمَامَةُ مَا حَمَّلتني مِن صَبَابَةٍ :: وَإِن خِلتِهِ قَد لاَقَ لَيسَ بِلاَئِقِ
أبِيتُ سَمِيرَ النَّجمِ والرَّكبُ هُجَّدٌ :: تَسُحُّ عَلَى نَحرِى دِمَاءُ الحَمَالِقِ
وقَلبي يغلي مِن لَظَى الوَجدِ خَافِقاً :: فَعُجبِى لِقَلَبٍ مِن لَظَى الوَجدِ خَافِقِ
وِإن تَحفَظِى العَهدَ الذِي كَانَ بَينَنَا :: وقَد يَحفَظُ المَومُوقُ عَهداً لِوَامِقِ
فَعَهدُكِ مَحفُوظٌ ولُقيَاكِ مُنيَةٌ :: وَمرآكِ لِلعَينَينِ أحسُنُ رَائِقِ
وَثغرُكِ عَذبٌ وَابتِسَامُكِ بَارِقٌ :: فَهَل لِى ثَوًى بَينَ العُذَيبِ وبَارِقِ
وإِن خُنتِ عَهدِى دُونَ ذَنبٍ جَنيتُهُ :: وقَطَّعتِ مِنِّي مُحكَمَاتِ الوَثَائِقِ
نَهَضتُ لِدَارِ الكَامِلِ السَّيِّدِ الذي :: أيَادِيهِ تَنهَلُّ إنهَلاَلَ الوَدَائِقِ
أكَامِلُ أنتَ المُستَلَذُّ الخَلاَئِقِ :: وأنتَ الفَتَى المَرضِىُّ بَينَ الخَلاَئِقِ
وأنتَ الذي جُرِّبتَ في كُلِّ مَشهَدٍ :: فَألفِيتَ مِفتَاحاً لِقُفلِ المَضَائِقِ
وأنتَ الذي أولاَك مَولاَكَ نِعمَةً :: فَفَرَّقتَهَا في النَّاسِ مِثلَ المفَارِقِ
تُوَالِي لِمَن والاَكَ أبهَى بَشَاشَةٍ :: وتُولِي لِمَن وَلاَّكَ أسنَى العَلاَئِقِ
وتَبسُطُ لِلزُّوَارِ كُلَّ أرِيكَةٍ :: مُنَمَّقَةٍ مَحفُوفَةٍ بالنَّمَارِقِ
وَتَسقِيهُمُ مِنكَ الحَدِيثَ مُعَتَّقاً :: وتَمنَحُ صفوَ الوِدِّ غَيرِ مُمَاذِقِ
فَلاَ تَحسَبَنَّ الكَعكَ كُلَّ مُدَوَّرٍ :: ولاَ كُلَّ طِرفٍ لاَحِقاً شَاوَ لاَحِقِ
أتَحسَبُ لِي في الشِّعرِ شِبهاً ألَم تَكُن :: نَظَرتَ إِلَى مَروِيِّهِ فِي المَهَارِقِ
فَكَيفَ أُجَارَي فِيهِ وهو سَجِيِّتِي :: وآخُذُهُ مِن بَينَ جَيبِي وعَاتِقِي
ومَعدِنُهُ فِينَا وعَرصَةُ دَارِهِ :: مَجَرُّ عَوَالِينَا ومَجرَى السَّوَابِقِ
فَشِعرِيَ في أقصَى المَغَارِبِ شَائِعٌ :: وجَاوزَينهُ الصِّيتُ أقصَى المَشَارِقِ
فَمَن كَانَ مُسطَاعَ السِّبَاق فَذَا المَدَى :: وهَا أنَا ذَا فَليأتِنِي بالمُسَابِقِ

كنت أحسب الشعراء من عالم آخر وذات مرة زارنا الشاعر الكبير مداح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكويري ولد عبد الله رحمه الله، واستنشده الوالد من مدائحه فأنشده من تلك المدائح الحسان، وكانت أول مرة أراه وكنت أقارن بين ما أسمع منه وما كنت أسمعه عبر الراديو وأتعجب، وكذلك الأمر مع الشاعر الكبير محمد عبد الرحمن ولد الرباني، رحم الله الجميع.

وفي المدرسة رقم 1 رأيت ذلك الرجل المهيب يلبس دراعة كحلة من ابّلمانْ وبيده صافرة إنه العملاق محمد ولد باگا، كان التلاميذ يخافون منه وأقام مزرعة في المدرسة فأنبتت من كل زوج بهيج من أنواع الخضروات وكان ثمة معلم يسمى الشيباني وكان مستخلطا فقال ذات مساء مخاطبا ولد باگا: احريثتنا أينتَ لاهي نگطعوها؟ فأجابه ولد باگا: احريثتنا !!
صفّر ولد باگا فاجتمع التلاميذ فأمرهم بمحو آثار تلك المزرعة فأصبحت كالصريم.

وفي إعدادية لكصر رأيت الشاعر الكبير عابدين ولد التقي وفي ذات المدرسة التي كان بها ولد باگا جاء بعد سنين الشاعر الكبير الطيب ولد ديدي رحمه الله معلما أعني المدرسة رقم 1.

أدركت أن الشعراء أناس عاديون مثلنا تماماً، يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب، كما قال صالح عن الإنجليز، يخافون من المجهول، وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق وبعضهم حرمته الحياة.
طرحت الأعاني و طويت الدجى ...

كامل الود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  / ومن باب المداعبة، والشيء بالشيء يذكر كان الشريف عبد القادر رجلا صالحا، وكان يفرض على الناس (فِفتنًا) يهدونه له، والفِفتن قطعة نقدية كانت...