العلامة محمد محمود ولد التلاميد
سأل الرئيس وزيره الأول : ولد التلاميد من هو ؟!
بين "إحصيرتْ تگانت" إلى "منطقة آفطوط" إلى وادي " گورگل الأبيض " إلى " كاراكورو " إلى هضبة "أفله" كان مجال تنقل القوم من قبيلة تركز، وبين أشرم وجونابه ولد سنة 1829 محمد محمود ولد اتلاميد، كان آية في الحفظ والذكاء حفظ القراءان وتعلم مبادئ علوم الشرع والعربية على ذويه حيث يقول:
غذاني بدُرِّ العلم أرأفُ والدٍ:: وأرحم أُمٍّ، لم تُبِتْنى على غمِّ
ولم يَفْطِماني عنه حتى رويته :: عن الأبِ ثم الأخِ والخالِ والأُمِّ
وعن غيرهم من كل حبر سَمَيْدَعٍ :: تقيٍّ نَقِيٍّ لا عييٍّ ولا فدْم
وتنقل بين محاظر آفطوط وأگان وتگانت ونهل حتى تضلع من علوم مدرسة الكحلة والصفرة، ثم تعمق في العلوم على علامة عصره المتبحر "اجدود" عبدالوهاب بن أكتوشن بن السيد العلوي وخصوصا الفقه والنحو واللغة، ثم شد الرحال نحو المشرق للحج وطلب العلم ومر في تيندوف على عالمها الشهير الشيخ المختار بن بلعمش الجكني ودرس عليه الحديث وعلومه وقد عرف عن ابن بلعمش تخصصه في الحديث وعلومه في ذلك العصر، ثم تابع رحلته إلى مكة المكرمة ليكون على موعد مع موسم الحج هناك سنة 1283 هـ واجتمع بأمير مكة الشريف عبدالله بن محمد فأكرمه وطلب منه البقاء عنده فأجاب، وكانت تقع بينه وبين علماء مكة والواردين عليها مناظرات ومحاورات علمية في مجلس الأمير، وقد أعجب الأمير بابن التلاميذ إعجابا شديدا فأكرمه أشد إكرام وكان يقيم عنده زمانا يذهب إلى المدينة المنورة ويعود، رحل إلى مصر ونزل عند نقيب أشرافها محمد توفيق البكري، فبالغ في إكرامه واستعان به في تأليف كتابه "أراجيز العرب"، ثم طبع الكتاب منسوبا إلى البكري وحده فغضب الشنقيطي وفارقه، ووصل الخلاف إلى القضاء. اتصل بالشيخ محمد عبده فسعى له بمرتب من الأوقاف فاستقر في القاهرة. وقد ذكره طه حسين في كتابه الأيام باسم الشيخ الشنقيطي، ثم رحل إلى الشام وتركيا بحثا عن الكتب لمطالعتها واستنساخها مما أكسبه معرفة واسعة بكثير من أهل العلم والمعرفة والسلاطين بل وحتى في أوساط الأوروبيين والمستشرقين، حيث كان محل إعجاب واعتبار من لدن الجميع بل إنهم جعلوا منه معجزة زمانه في الحفظ والعلم و سعة الاطلاع، واستدعاه السلطان عبد الحميد الثاني حين علم بقدومه القسطنطينية فأكرمه وأجله وعرف قدره و كلفه سنة 1304 هـ بالبحث عن الكتب العربية في أسبانيا، وافق ولد اتلاميد على القيام بتلك المهمة مشترطا على الخليفة في ذلك شروطا كان أولها وأهمها عزل ناظر وقف المالكية بالمدينة الذي كان يحرم الشناقطة من حقوقهم في الوقف، جهز الخليفة لابن التلاميذ سفينة وطباخا ومؤذنا وكاتبا يرافقه في تلك الرحلة، فذهب ابن التلاميذ في رحلة قادته إلى الأندلس أولا ثم لندن و باريس وبعد إقامته في تلك الأماكن أنجز مهمته ودونها في كتاب سماه " أشهر الكتب العربية الموجودة في خزائن مكاتب إسبانية "، وفور عودته أرسل إليه الخليفة يطلب منه لائحة الكتب، غير أن ابن التلاميذ امتنع من تسليمها قبل أن ينفذ الخليفة ما التزم له به، وهو ما أغضب الخليفة عليه، وفي سنة 1306 هـ بعث ملك السويد والنرويج "أسكار الثاني" في إطار التحضير لعقد المؤتمر الثامن للعلوم الشرقية في استوكهولم -إلى السلطان عبد الحميد يطلب منه أن يبعث إليه بوفد من أبناء العرب يسألهم عن القرآن واللغة وأشعار العرب وأن يكون الوفد برئاسة محمد محمود بن التلاميذ، ،وافق ولد اتلاميد على طلب الخليفة لكنه ذكره من جديد بشروطه السابقة مضيفا إليها أن يكون سفره إلى السويد لرفع شأن الإسلام والمسلمين وبأن يختار من علماء اللغة العربية من يرافقه، وقام السفير السويدي في مصر في ذلك الوقت بزيارة لابن التلاميذ في محل إقامته فرحا باستجابته لحضور المؤتمر وهو ما رأى فيه ولد التلاميد فرصة ذهبية لإسماع صوت الإسلام وإبرازه للعالم في أبها صوره وبأفصح الكلام وأبلغه فنظم قصيدة رائعة بلغت 205 بيتا ليلقيها في المؤتمر المذكور، أولها :
ألا طـرقت ميٌ فتى مطلع النجم :: غريبا عن الأوطان في أمم العجم
وفيها قوله يشيد بأسكار ملك السويد:
مـآدب كـل الـناس للطعم وحده :: ومـأدبـتـا 'أسـكار' للعلم والطعم
دعا دعوة للعلم عمت وخصصت :: فأضحى بها 'أسكار' يعلو على النجم
دعـا الـجـفلَى كل الأنام معمما :: وبالنَّقَرَى كنتُ المخصص بالاسم !
إلا أن الأقدار لم تشأ لذلك الحضور أن يتم حيث لم يستجب الخليفة لطلبات ولد التلاميد وهو ما جعله يرفض المشاركة في المؤتمر حتى تتحقق شروطه، فاشتد غضب الخلفية عليه ونفاه إلى المدينة المنورة وبقي فيها إلى أن ضايقه عامل الخلفية هناك فقرر الارتحال إلى مصر وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله في منزله قرب جامع الأزهر قبيل غروب يوم الجمعة 23 شوال 1322 هـ - 1904م ، وقد أشرف على جنازته زميله محمد عبده الذي أوصاه بمكتبته التي جعلها وقفا مؤبدا.
يقول عنه :طه حسين : كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب.
وقال عنه أحمد حسن الزيات باشا صاحب مجلة الرسالة الذي درس عليه شرح المعلقات : حلف الشبقيطي أن لا يُدرس إلا من مدحه بقصيدة ويكون عنده لكل كلمة منها شاهد من أشعار العرب، قال الزيات جئته وألقيت عليه قصيدة أمدحه بها ومن ضمنها وأنت حامل الدرفس .. فنظر إلي قائلا وما الدرفس ؟ قلت الراية قال وما شاهدها ؟ قلت قول البحتري :
وَالمَنايا مَواثِلٌ وَأَنوشِر - وانَ يُزجى الصُفوفَ تَحتَ الدِرَفسِ
فاعتمدني بين طلابه وكان الأزهر اغفل طويلا اللغة العربية والأدب من مناهجه حتى أدخلهما محمد عبده في الدراسة الحرة وجعل تدريس اللغة للشيخ الشنقيطي ومن الغريب أنه لايوجد من القاموس المحيط إلا نسخة واحدة نقلها ولد اتلاميد من حفظه وقصتها معروفة.
ويقول الأستاذ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المصرية عن ولد اتلاميد: إنه العلامة المحدث الذي انتهت إليه رئاسة علوم اللغة والحديث في هذه الديار لاسيما علم الرواية للحديث الشريف وأشعار العرب المخضرمين، كما كان أعلم المسلمين بأسرار اللغة العربية والواقفين على المخطوطات ومرجعا في تقرير الأحكام اللغوية• ويقول عنه عبد الجليل برادة: إنه أحد فضلاء الدهر لم تر العين مثله ولا أظنها تراه الحائز من كل معنى غايته ومنتهاه.
ويقول عنه سفير السويد بمصر وهو مستشرق ذو إطلاع على الثقافة العربية: كان رجلا عربيا قحا من صميم العرب لغة وعادة ومنشأ ومسكنا.
ومن شعره قوله في رحلته إلى إسبانيا وفرنسا :
ما ليل طول ولا ليل التمام معا :: كليل باريس أو ليلي بأندلس
لم أدر أيهما أقوى محافظة :: على الظلام وحجب الصبح بالحرس
وقوله :
يا ريح طيبة هبي لي صباح مسا :: واستصحبي من أريج المصطفى نفسا
واستصحبي من أريج الصاحبين شذى :: يفوق مشمومه المشموم والهبسا
خلاصة مجمطة مانعة من الحشو والخصاصة.
كامل الود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق