غاب الغناء وحضرت الأغاني
ذات كتابة من كتاباتي من على اللازوردي علق أحدهم بالقول: أعجبتني كتاباتك لكن أجلك عن سماع الهول، عندها تذكرت گاف (اخريريبَ):
اتعيبنِ هون البظانْ :: بنّي ما وقّرتْ الشيبَ
ونّي نبغِ هول أژوانْ:: "مغلاكْ إعْليّ يعيبَ"
كان لي صديق نديّ الصوت أنشدني ذات أنس بليلة أضحيان ونحن بالبادية نصطلي نارا باليفاع تحرق، أنشدني من قول امرئ القيس:
جزعتُ ولم أجزع من البين مجزعاً::وَعزَّيْتُ قلْباً بالكَوَاعِبِ مُولَعا
وَأصْبَحْتُ وَدَّعْتُ الصِّبا غَيْرَ أنّني::أراقب خلات من العيش أربعا
فَمِنْهُنَّ: قَوْلي للنَّدَامى تَرَفَّقُوا،::يداجون نشاجاً من الخمر مترعاً
وَمنهُنَّ: رَكْضُ الخَيْلِ تَرْجُمُ بِالقَنا::يُبادرنَ سِرْباً آمِناً أنْ يُفَزَّعا
وَمنْهُنَّ: نَصُّ العِيسِ واللّيلُ شامِلٌ::تَيَممَّ مجْهُولاً مِنَ الأرْضِ بَلْقَعا
خَوَارِجُ مِنْ بَرِّيّة ٍ نَحْوَ قَرْيَةٍ،::يجددن وصلاً أو يقربنَ مطمعا
وَمِنْهُنَّ: سوْقي الخَوْدَ قَد بَلّهاالنَّدى ::تُرَاقِبُ مَنْظُومَ التَّمائِمِ، مُرْضَعا
أنا بدوري أصبحت ودعت الصبا غير أنني أراقب خلات من العيش منهن (هول أژوان) فما ينفك يطربني، الليلة لم أجد الهول "ماهُ كرهُو غيرْ اتعسريهْ" وفي غياب الغناء وجدتني أبحر في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومن الصدف أنني كنت أقرأ عن الشاعر الأخطل، قال جرير: أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني، لقد أعنت عليه بكفر وكبر سن وما رأيته إلا خشيت أن يبتلعني.
وقال الأصمعي: أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، وكان الأخطل أسن من جرير، ولئن أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، فقد أدركنا محمد عبد الرحمن ولد انگذي"حَمَّ" وهو شيخ كبار قد بلغ من الكبر عتيا، كانت انواكشوط حينها مدينة صغيرة تضم كبتال وبلدة لكصر، كان يسكن في نقطة قصية من لكصر تسمى "ماريگو" جنوب شركة "سوكومتال" الآن، كان شيخا هرما منفوش الشعر ثابت الخطوة وهو يسدر في أهل لمروَّ بين مرصت لكصر وبعض الحوانيت المتناثرة في البلدة، كان الوالد يجله ويكرمه وكان يحل مشاكله مع بعض الدائنين وربما جلس معه وربما استنشده فأنشده على امباله في اكحال كر بعض مخمسات ابن مهيب فيشجي بذلك الانشاد القوي النفوس، كان وقد تقدم به العمر عذب الصوت قويه وكأنما عناه الشيخ ولد مكي بقوله لوالده لعور:
شبنَ واكبرنَ عن ذ اليمْ ::غير الفتى من صنيعُ
يشيبُ كثيرا واتّمْ :: الطباعُ يوافيعُ
أبحرت مع أبي الفرج الأصفهاني:
قال الأخطل ما هجوت أحداً قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها، وقال عبد الملك بن مروان للأخطل: ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك فقال أطائع أم كاره قال بل طائع، قال ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك إنني إذا لكما قال الشاعر:
كَمُبْتاعٍ ليركبَه حماراً :: تَخَيَّره من الفرس الكبير
ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده فقال قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال اسقوه ماء فقال شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال فاسقوه لبنا قال عن اللبن فطمت، قال فاسقوه عسلا قال شراب المريض، قال فتريد ماذا قال خمرا يا أمير المؤمنين، قال أوعهدتني اسقي الخمر لا أمّ لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت، فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر فسقاه فقال اعدلها بأخرى فسقاه أخرى فقال تركتهما يعتركان في بطني اسقني ثالثة فسقاه ثالثة فقال تركتني أمشي على واحدة اعدل ميلي برابعة فسقاه رابعة فدخل على عبد الملك فأنشده:
خف القطين فراحوا منك وابتكروا :: وأزعجتهم نوى في صرفها غير
كأنّني شارِبٌ يوم اسْتُبِد بهمْ :: من قرقفٍ ضمنتها حمصُ أو جدرُ
جادت بها من ذوات القار مترعة :: كلفاء، ينحت عن خرطومها المدر
لذ أصاب حمياها مقاتله :: فلم تكد تنجلي عن قلبه الخُمرُ
كأنني ذاك، أو ذو لوعة خبلت :: أوصاله، أو أصابت قلبه النُّشَرُ
شوقا إليهم، ووجدا يوم أتبعهم :: طرفي، ومنهم بجنبي كوكب زمر
الى امرئ لا تعدينا نوافله :: أظفره الله، فليهنا له الظفر
الخائض الغمر، والميمون طائره :: خليفة الله يستسقى به المطر
والهم بعد نجي النفس يبعثه :: بالحزم، والأصمعان القلب والحذر
والمستمرُّ به أمر الجميعِ، فما :: يغتره بعدَ توكيدٍ له غرر
وما الفرات إذا جاشت حوالبه :: في حافتيه وفي أوساطه العشر
وذعذعته رياح الصيف، واضطربت :: فوق الجآجئ من آذيه غدر
يوماً بأجْودَ مِنْ حين تسأله :: ولا بأجهر منه حين يجتهر
قال الأخطل فضلت الشعراء في المديح والهجاء والنسيب بما لا يلحق بي فيه فأما النسيب فقولي:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر :: وإن كان حيَّانَا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ
من الخفرات البيض أما وشاحها :: فيجري وأما القلب منها فلا يجري
تموت وتحيا بالضجيع وتلتوي :: بمطرد المتنين منبتر الخصر
وقولي في المديح:
نفسِي فداءُ أمير المؤمنين إذا :: أبدى النَّواجِذَ يوماً صارِمٌ ذَكَرُ
الخائضُ الغمرةِ الميمونُ طائرهُ :: خليفةُ اللَّه يُسْتَسْقَى به المَطَرُ
وقولي في الهجاء:
وكنتَ إذا لَقِيتَ عبيدَ تَيْمٍ :: وتيماً قلتَ أيُّهمُ العبيدُ
لئيمُ العالَمين يَسُودُ تَيْماً :: وسيِّدُهم وإن كَرِهوا مَسُودُ
ودعا شاب من شباب أهل الكوفة الأخطل إلى منزله، فقال له يابن أخي أنت لا تحتمل المؤونة وليس عندك معتمد، فلم يزل به حتى انتجعه فأتى الباب فقال يا شقراء فخرجت إليه امرأة فقال: هذا أبو مالك قد أتاني.
فاتهزت المرأة الفرصة وباعت غزلاً لها واشترت لحما ونبيذا وريحانا فدخل زوجها مع الأخطل خصا لها فأكل معه وشرب، فلما تضور اللحم والنبيذ في جوفه انفرجت أساريره وأنشد:
لَعَمْرُك ما لاقيتُ يومَ معيشةٍ :: من الدهرِ إلاَّ يومُ شقراءَ أقصَرُ
حَوَارِيَّةٌ لا يدخل الذَّمُّ بيتَها :: مُطَهَّرةٌ يأوي إليها مُطَهَّرُ
وذات نجعة والشيء بالشيء يذكر في اندر جمع الشاعر محمد ولد ابنو ولد احميدن الميرة لكنه لم يجد راحلة تحمله إلى لخيام وكان مستعجلا لا يرغب في المبيت، فانتهز صديقه المختار ولد عابدين ولد هدار الفرصة وأسرع إلى أبناء بونن ولد الشيخ سعدبوه وقال لهم محمد ولد ابنو هاهو عالق في اندر يود الذهاب إلى لخيام وهذه فرصة لا أحب أن تفوتكم فجهزوا له سائقا وسيارة، ففعلوا فأنشأ في مدحهم:
لأبناء بونن السماحة والفضل :: و محض التقى والجود والحلم والعدل
وفيهم معان من معاني جدودهم:: مشاهدة يسمو بها القول و الفعل
فهم غرر الأنداء في كل مشهد ::و غيرهم في المجد فرع و هم أصل
سراة حماة لا يمل جليسهم ::و لم يك يخشى أن تزل به النعل
أحاديثهم تشفي من الداء كله:: و تنسيك ما مجت بأجباحها النحل
و لا عيب فيهم غير أن نوالهم:: على الجار جار ليس ينقصه المحل
فكلهم في البذل حاتم طيئ :: و كلهم بدر و كلهم عدل
فليس كمثل الشمس في صحوها السهى:: وليس كمثل الطرف في الغلوة البغل
و هل ينبت الخطيئ إلا وشيجه :: و تغرس إلا في منابتها النخل
وكان الحاج اكويمل ولد گوتل وهو حرطاني من تندغه (أهل بوحبيني) في دكار موئل الأدباء والشعراء والقادمين من كل طيف، وكان يضع في صالون بيته دفترا كبيرا وكلما تضلع شاعر من "مارو والحوت" يقدمه له، فتسيل أودية بقدرها، وذات مقيل قدم دفتره للشاعر محمد ولد ابنو ولد احميدن مستفزا بأن في الدفتر من هو أشعر منه، فكتب له:
أهاجت لك الأشجان لمحة بارق:: وزورة طيف من أمامة طارق
أمامة ما حملتني من صبابة :: وإن خلته قد لاق ليس بلائق
وإن خنت عهدي دون ذنب جنيته :: وقطعت مني محكمات الوثائق
نهضت لدار السيد الكامل الذي :: أياديه تنهل انهلال الودائق
"أكامل" أنت المستلَذُ الخلائق :: وأنت الفتى الْمَرضيُّ بين الخلائق
وأنت الذي جُرِّبت في كل مشهد:: فأُلفيتَ مفتاحا لقُفل المضائق
وأنت الذي أولاك مولاك نعمة :: ففرقتها في الناس مثل المفارق
توالي لمن والاك أبهى بشاشة :: وتولي لمن أولاك أسنى العلائق
وتبسط للزوار كل أريكة :: منمقة محفوفة بالنمارق
وتسقيهمُ منك الحديث معتقا :: وتمنح صفو الود غير مماذق
فلا تحْسبن الكعْك كل مدَوّرٍ:: ولا كل طِرْفٍ لاحقاً شأو لاحق
وتحسب لي في الشعر شبها ألم تكن :: نظرت إلى مرويه في المهارق
فكيف أجارى فيه وهو سجيتي ::وآخذه من بين جيبي وعاتقي
ومعدنه فينا وعرصة داره :: مجر عوا لينا ومجرى السوابق
فشعري في أقصى المغارب شائع :: وجاوز منه الصيت أقصى المشارق
فمن كان مسطاع السباق فذا المدى :: وها أنذا فليأتني بالمسابق
كنت أحسب الشعراء من عالم آخر وذات مرة زارنا لكويري ولد عبد الله وأنشد بعض مدائحه للوالد وكانت أول مرة أراه وكنت أقارن بين ما أسمع منه وما كنت أسمعه عبر الراديو وأتعجب، وكذلك الأمر مع محمد عبد الرحمن ولد الرباني، وفي المدرسة رقم 1 رأيت ذلك الرجل المهيب يلبس دراعة من (ابّلمانْ) وبيده صافرة إنه محمد ولد باگا، كان التلاميذ يخافون منه وكان الكبار يجلونه.
وفي إعدادية لكصر رأيت عابدين ولد التقي وفي ذات المدرسة التي كان بها ولد باگا جاء بعد سنين الطيب ولد ديدي معلما أعني المدرسة رقم 1
المشاهير أناس عاديون مثلنا تماماً، يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب، يخافون من المجهول، وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق وبعضهم حرمته الحياة.
طويت كتاب الأعاني و طواني الدجى هذه المرة بدل أن أطويه.
كامل الود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق