الاثنين، 17 فبراير 2025

 غاب الغناء وحضرت الأغاني







كان لي صديق نديّ الصوت أنشدني ذات أنس بليلة أضحيان ونحن بالبادية نصطلي نارا باليفاع تحرق أنشدني من قول امرئ القيس:
جزعتُ ولم أجزع من البين مجزعاً :: وَعزَّيْتُ قلْباً بالكَوَاعِبِ مُولَعا
وَأصْبَحْتُ وَدَّعْتُ الصِّبا غَيْرَ أنّني :: أراقب خلات من العيش أربعا

وكنت بدوري أصبحت ودعت الصبا غير أنني أراقب خلات من العيش منهن هول أژوان، لكنني -ولاني مَقِيس- زهدت في الأوتار بعد قول الإمام الأكبر بداه ولد البصيري برّد الله مضجعه بعدم جوازها عند شرحه لبيت العلامة محمد مولود ولد أحمد فال اليعقوبي (آدَّ) علمًا في نظمه (محارم اللسان)
كذا غناءٌ لحرام داعِ :: وغيرُه يُكرَه كالسّماعِ
فقد أورد قول العراقي في الألفية:
عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ :: لا تُصْغِ (لاِبْنِ حَزْمٍ) المُخَالِفِ

وهنا أنبّه إلى قول العلامة المؤرخ المختار ولد حامد:
فليس على الحُكمِ الخِلافيِ ينبغي :: خلافٌ بل المطلوبُ لينُ العَرائِكِ
فخذْ ما ترى واترك أخاكَ وما يرى :: كلانا إذا ما أنصفَ الدهر مالكي

وقول ابن أخيه العلامة القاضي عبد الله ولد امّين:
قالوا أتلعبُ "مرياصا" فقلت لهم :: أليسَ يوجدُ شيءٌ غير مرياص؟
قالوا ألم تَرها تُبدي العجابَ لنا :: فقلت إني إليكم غيرُ خرَّاصٍ
قالوا ترى لعبَها للهِ معصيةً :: و كل لاعب مرياصٍ له عاص؟
فقلت كلا لعمري لستُ أمنعها :: بل لستُ ألعبها (باطْ آنَ من راصِي)

الليلة ومن تلك الشرفة المطلة على الشاطئ اللازوردي طفق المكان يوغل في المساء، بحر لجي يفصل بيني وبين المنتبذ القصي أرسلت طرفي عبر المدى، و أرجعت البصر خاسئا وهو حسير لمصير ذلك المنتبذ، الذي أحرق أبناءه اليأس فطوحوا ينقبون في البلاد تتعاطاهم المنافي هل من محيص..
يقال إن الحكومات الجيدة إذا لم تخلق الوظائف فإنها تخلق الأمل، وبلدنا يخلق البطالة واليأس.

أعرضت الليلة عن (الهول)، وأبحرت عوضا عنه في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، كنت أقرأ عن الشاعر الأخطل، قال جرير:
أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني، لقد أعِنتُ عليه بكفر وكبر سن وما رأيته إلا خشيت أن يبتلعني.

وقال الأصمعي: أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، وكان الأخطل أسن من جرير.
ولئن أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم، فقد أدركنا محمد عبد الرحمن ولد انگذي"حَمَّ" وهو شيخ كبار قد بلغ من الكبر عتيا، كانت انواكشوط حينها مدينة صغيرة تضم كبتال وبلدة لكصر، كان يسكن في نقطة قصية من لكصر تسمى "ماريگو" جنوب شركة "سوكومتال" الآن، كان شيخا هرما منفوش الشعر ثابت الخطوة وقد ظاهر دراعتين بيضاء وزرقاء (امغربي) ،وهو يسدر في أهل لمروَّ بين مرصت لكصر وبعض الحوانيت المتناثرة في البلدة.
كان الوالد يجله ويكرمه وكان يحل مشاكله مع بعض الدائنين وربما جلس معه وأحيانا يستنشده فينشده على امباله (دون أوتار) في اكحال كر بعض مخمسات ابن مهيب فيشجي ذلك الانشاد القوي الشجي النفوس.
كان وقد تقدم به العمر عذب الصوت قويه وكأنما عناه الشيخ ولد مكي بقوله لوالده لعور:
شبنَ واكبرنَ عن ذ اليمْ ::غير الفتى من صنيعُ
يشيبُ كثيرا واتّمْ :: الطباعُ يوافيعُ

نبحر مع أبي الفرج الأصفهاني: .. وكان أبو عمرو يقول لو أدرك الأخطل يوما واحداً من الجاهلية ما فضلت عليه أحداً، وكان مما يقدم به الأخطل على صاحبيه جرير والفرزدق أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن الفحش وقال الأخطل ما هجوت أحداً قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها، وقال عبد الملك بن مروان للأخطل: ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك فقال أطائع أم كاره قال بل طائع، قال ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك إنني إذا لكما قال الشاعر:
كَمُبْتاعٍ ليركبَه حماراً :: تَخَيَّره من الفرس الكبير

ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده فقال قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال اسقوه ماء فقال شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال فاسقوه لبنا قال عن اللبن فطمت، قال فاسقوه عسلا قال شراب المريض، قال فتريد ماذا ؟
قال خمرا يا أمير المؤمنين، قال أوعهدتني اسقي الخمر لا أمّ لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت..
فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر فسقاه فقال اعدلها بأخرى فسقاه أخرى فقال تركتهما يعتركان في بطني اسقني ثالثة فسقاه ثالثة فقال تركتني أمشي على واحدة اعدل ميلي برابعة فسقاه رابعة فدخل على عبد الملك فأنشده:
خَفّ القطينُ فراحوا منك وابتكَروا :: وأزعجتْهم نَوًى في صرفها غِيَرُ
إلى امرئٍ لا تعدّينا نوافلهُ :: أظفرهُ اللهُ، فليهنا لهُ الظفرُ
ألخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُهُ :: خَليفَةِ اللَّهِ يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
والهمُّ بعدَ نجي النفسِ يبعثه :: بالحزْمِ، والأصمعانِ القَلْبُ والحذرُ
وما الفراتُ إذا جاشتْ حوالبهُ :: في حافتيهِ وفي أوساطهِ العشرُ
وذَعْذعَتْهُ رياحُ الصَّيْفِ، واضطرَبتْ :: فوقَ الجآجئ من آذيهِ غدرُ
يوماً، بأجْودَ مِنْهُ، حينَ تَسْألُهُ:: ولا بأجهرَ منهُ، حين يجتهرُ

يروى أن الفرزدق والأخطل ذكرا جريرا؛ فقال له الأخطل: والله إني وإياك لأشعر منه، غير أنه قد أعطي من سيرورة الشعر شيئا ما أعطيه أحد؛ لقد قلت بيتا ما أعرف في الدنيا بيتا أهجى منه:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم :: قالوا لأمّهم بولي على النار
فقال هو:
والتغلبىُ إذا تنحنح للقرى :: حكّ استه وتمثّل الأمثالا
فلم يبق سقّاء ولا أمة إلا رواه.
فقضيا يومئذ لجرير أنه أسير شعرا منهما، جرير شعرُ مرفود.

وكان الحاج اكويمل ولد گوتل وهو حرطاني من تندغه "أهل بوحبيني" في دكار موئل الأدباء والشعراء والقادمين من كل طيف.
كان يضع في صالون بيته دفترا كبيرا يكتب فيه الشعراء أمداحهم له، وذات مقيل قدم دفتره للشاعر محمد ولد ابنو ولد احميدن مستفزا بأن في الدفتر من هو أشعر منه، فكتب له:
أهَاجَت لَكَ الأشجانَ لَمحَةُ بَارِقِ :: وزَورَةُ طَيفٍ مِن أُمَامَةَ طَارِقِ
وذِكرَةُ أيامِ الهَوَى عِندَ ذِي الهُوَى :: لَيَالِيَ لاَ أخشى طُرُوقَ الطَّوَارِقِ
لَيَالِي طَابَ الوَصلُ فِيهَا لِوَاصِلٍ :: وأينَعُ دَوحُ العِشقِ فِيهَا لِعَاشِقِ
وأعطَيتُ فِيهَا مَحضَ وُدِّي أُمَامَةً :: ولَم أكُ ذَا وَجهَينِ مِثلَ المُنَافِقِ
أُمَامَةُ مَا حَمَّلتني مِن صَبَابَةٍ :: وَإِن خِلتِهِ قَد لاَقَ لَيسَ بِلاَئِقِ
أبِيتُ سَمِيرَ النَّجمِ والرَّكبُ هُجَّدٌ :: تَسُحُّ عَلَى نَحرِى دِمَاءُ الحَمَالِقِ
وقَلبي يغلي مِن لَظَى الوَجدِ خَافِقاً :: فَعُجبِى لِقَلَبٍ مِن لَظَى الوَجدِ خَافِقِ
وِإن تَحفَظِى العَهدَ الذِي كَانَ بَينَنَا :: وقَد يَحفَظُ المَومُوقُ عَهداً لِوَامِقِ
فَعَهدُكِ مَحفُوظٌ ولُقيَاكِ مُنيَةٌ :: وَمرآكِ لِلعَينَينِ أحسُنُ رَائِقِ
وَثغرُكِ عَذبٌ وَابتِسَامُكِ بَارِقٌ :: فَهَل لِى ثَوًى بَينَ العُذَيبِ وبَارِقِ
وإِن خُنتِ عَهدِى دُونَ ذَنبٍ جَنيتُهُ :: وقَطَّعتِ مِنِّي مُحكَمَاتِ الوَثَائِقِ
نَهَضتُ لِدَارِ الكَامِلِ السَّيِّدِ الذي :: أيَادِيهِ تَنهَلُّ إنهَلاَلَ الوَدَائِقِ
أكَامِلُ أنتَ المُستَلَذُّ الخَلاَئِقِ :: وأنتَ الفَتَى المَرضِىُّ بَينَ الخَلاَئِقِ
وأنتَ الذي جُرِّبتَ في كُلِّ مَشهَدٍ :: فَألفِيتَ مِفتَاحاً لِقُفلِ المَضَائِقِ
وأنتَ الذي أولاَك مَولاَكَ نِعمَةً :: فَفَرَّقتَهَا في النَّاسِ مِثلَ المفَارِقِ
تُوَالِي لِمَن والاَكَ أبهَى بَشَاشَةٍ :: وتُولِي لِمَن وَلاَّكَ أسنَى العَلاَئِقِ
وتَبسُطُ لِلزُّوَارِ كُلَّ أرِيكَةٍ :: مُنَمَّقَةٍ مَحفُوفَةٍ بالنَّمَارِقِ
وَتَسقِيهُمُ مِنكَ الحَدِيثَ مُعَتَّقاً :: وتَمنَحُ صفوَ الوِدِّ غَيرِ مُمَاذِقِ
فَلاَ تَحسَبَنَّ الكَعكَ كُلَّ مُدَوَّرٍ :: ولاَ كُلَّ طِرفٍ لاَحِقاً شَاوَ لاَحِقِ
أتَحسَبُ لِي في الشِّعرِ شِبهاً ألَم تَكُن :: نَظَرتَ إِلَى مَروِيِّهِ فِي المَهَارِقِ
فَكَيفَ أُجَارَي فِيهِ وهو سَجِيِّتِي :: وآخُذُهُ مِن بَينَ جَيبِي وعَاتِقِي
ومَعدِنُهُ فِينَا وعَرصَةُ دَارِهِ :: مَجَرُّ عَوَالِينَا ومَجرَى السَّوَابِقِ
فَشِعرِيَ في أقصَى المَغَارِبِ شَائِعٌ :: وجَاوزَينهُ الصِّيتُ أقصَى المَشَارِقِ
فَمَن كَانَ مُسطَاعَ السِّبَاق فَذَا المَدَى :: وهَا أنَا ذَا فَليأتِنِي بالمُسَابِقِ

كنت أحسب الشعراء من عالم آخر وذات مرة زارنا الشاعر الكبير مداح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكويري ولد عبد الله رحمه الله، واستنشده الوالد من مدائحه فأنشده من تلك المدائح الحسان، وكانت أول مرة أراه وكنت أقارن بين ما أسمع منه وما كنت أسمعه عبر الراديو وأتعجب، وكذلك الأمر مع الشاعر الكبير محمد عبد الرحمن ولد الرباني، رحم الله الجميع.

وفي المدرسة رقم 1 رأيت ذلك الرجل المهيب يلبس دراعة كحلة من ابّلمانْ وبيده صافرة إنه العملاق محمد ولد باگا، كان التلاميذ يخافون منه وأقام مزرعة في المدرسة فأنبتت من كل زوج بهيج من أنواع الخضروات وكان ثمة معلم يسمى الشيباني وكان مستخلطا فقال ذات مساء مخاطبا ولد باگا: احريثتنا أينتَ لاهي نگطعوها؟ فأجابه ولد باگا: احريثتنا !!
صفّر ولد باگا فاجتمع التلاميذ فأمرهم بمحو آثار تلك المزرعة فأصبحت كالصريم.

وفي إعدادية لكصر رأيت الشاعر الكبير عابدين ولد التقي وفي ذات المدرسة التي كان بها ولد باگا جاء بعد سنين الشاعر الكبير الطيب ولد ديدي رحمه الله معلما أعني المدرسة رقم 1.

أدركت أن الشعراء أناس عاديون مثلنا تماماً، يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب، كما قال صالح عن الإنجليز، يخافون من المجهول، وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق وبعضهم حرمته الحياة.
طرحت الأعاني و طويت الدجى ...

كامل الود

 إيگاون



ولع أهل المنتبذ القصي بالغناء والطرب لاحدود له، فهم أهل صحراء أصاخوا لسيمفونية الرمل وألقوا السمع لحداء الريح، ولم تزل مجالس السمر تقام في ليالي الصحراء الطوال تدار بها آنية الأدب وتدور على الندماء فيها كؤوس من الطرب صافية لا للسلاف ولا للورد رياها.

كم فتاة مثل ليلى وفتى كابن الملوح
كلّما حدّث أصغت وإذا قالت ترنّح
يستمر الهول وتبسم ليلاه عن ألمى فيهز شيطان الشعر جناحيه:
هذا گافي هون السابع :: واكتن تظحك ل عرادي
انگول الثامن والتاسع :: والعاشر وانگول الحادي

كانت للمطربين (إيگاون) مكانة مرموقة في المجتمع فهم السلطة الثالثة تتوسط السلطتين، سلطة السيف وسلطة القلم..
يعلن الحي حالة الطوارئ إن حل بساحته (إيگاون)، وترى طاوي ثلاث عاصب البطن مرملا، إن حل بساحته (إيگاون) مستعدا لذبح ابنه حتى يوفر لهم القرى، وكان إكرام (إيگاون) يأتي على قدر النبل والمروءة ، يُقدح الزناد فتسيل أودية بقدرها..

يروى أن أحد العلماء الصلحاء حل بساحته (إيگيو) ولم يكن يرى جواز الغناء على الآلة، لكنه لأصالة معدنه وكرم محتده رأى - وكان نديّ الصوت - أن يكمل إكرام ضيفه بمباسطته، فلما جن الليل ناده قائلا:
سنضع الآلة جانبا ونتناشد أنا وأنت في مدح النبي صلى الله عليه سلم لنعرف أينا أحسن صوتا.

وذات أنس حدثنا الإمام الأكبر بداه ولد البصيري فقال:
كنت مع شيخي، الشيخ أحمدو ولد أحمذيّ، وكان "يعرّظني" على كثيب خارج الحي، وجاء الأعور ولد انگذي للحي بعدنا، ووضع "آلته"، وخرج نحونا، وما إن أبصر لعور، الشيخ أحمدو، حتى جعل أصبعه في أذنه، وطفق ينشد ..
يقول بدّاه، واصفا حال شيخه، الشيخ أحمدو، الذي تملّكه الطرب: "تم ذَا لمرابط يحمار ويخظار" حتى فرغ الأعور من إنشاده. فأعطاه ما قطع به لسانه .. وانصرف.

ويقول العلامة محمد باب ولد امحمد ولد أحمد يوره مخاطبا الفنان امحمد ولد انكَذي "لعور":
مگط اطْرَ وإلْتزْ إمعـــاكْ :: ولْ آدم بأعنادُ مَطــاحْ
ءُ عندِ عنك زاد أورَ ذاكْ :: من عِبادْ اللهْ الصّـلاّح
فأجابه لعور:
يالملحوگ إلِّ جاكْ إتغيثْ :: ءُ عالم و امجوّد واسْخِ شاحْ
ولِّ عـندكْ منْ لَحاديثْ :: ألاَّ لحاديثْ الصحاحْ

وحين تباهر الفنان أحمد ولد بوبَّ جدّو مع ابن عمه سيد أحمد ولد بوبَّ جدُّ وأخواله في شور، تدخل العلامة الأديب السالك ولد الحاج أحمد ديدَ القَلاوي إلى جانب أحمد:
يَحْمَدْ مِن لِبْيَاظْ إيلَ طابْ :: خَلِّ عَنّكْ جيهتْ لكحالْ
وَاخْبَطْلِ لَعْتيگْ ولَكْلابْ :: و الرَّمگانِ و اخبطْ لرْحالْ
وِيلَ درتْ اتروزْ اتكحَّلْ :: مَانَكْ لاهِ بعد اتْزَحَّلْ
گومْ امْعَظَّلْ لا تَتْوحَّلْ :: كافِ من لكحالْ أعظالْ
اخبطْ بَيْگِ فمْ ؤنَحّلْ :: تَگْنَعْ لَكْ شِعَّارْ التِنحال

ويقول العلامة الأديب سِيدِ الْمِصْطَفْ ولد سيدي عبد الله ولد الشيخ المهدي التِنْوَاجِيوي مفضلا أحمد أيضا:
يَحْمَدْ يللِّ بيك اتْمَوْنيكْ :: كِلْ أخْلاگ افْ هولْ التنْحالْ
يَلِّ مِن سِقْرَكْ گالتْ فيكْ :: فِتْ الناسْ اللاَّهِ ينگالْ
كانَكْ نَگرَيتْ افْ كلْ اوقَيتْ :: الْهَولْ إلينْ الْحَگْ لِبْتَيْت
سَبَّگ لكْ بَيْگِ واِيلَ جَيْتْ :: اعْلَ رَدّاتُ مانَكْ مَالْ
تَمْ افْ لبتيت انشِدْلَكْ بَيتْ :: راهُ ذاكْ اِيجيبْ الِّ قالْ

وذات أنس في حلة أهل الشيخ المهدي عند موضع (أشگيگ مقچّوگه) استدعى العلامة الأديب سيدي عبد الله ولد الشيخ محمد المهدي الفنان ملاي إسماعيل ولد أبّاشه، ليعزف له قوراس بعدما أعيى الفنانين الكبار: أحمد ولد دندني وصمب ولد السِّيد وأحمد زيدان ولد بوب جدو ومحمد محمود ولد أعل خدجَ

فجاء الفنان ملاي إسماعيل ولد أبّاشه راكبا على حصان وكان الوقت أصيلا فقال له سيد عبد الله لا تنزل عن ظهر الحصان حتى تعزف لي قوراس، فأخذ ملاي إسماعيل تيدنيتُ وعزف قوراس فقال له سيد عبد الله:
تخبط قوراس ابلا انزاع :: جبتُ واتجيب أجنـــاسُ
شاعر غيرك فالحگ گاع :: رابط راصِ قــــوراسُ

فرحل أهل دندني، فذهب في إثرهم سيد عبد الله بصربة كبيرة وقال مسكريا:
ما ايگدْ إعانَدكمْ فَـــــرْ:: شاعرْ استنبَطْ باتمَيْريرْ
زَينْ لَخْبيطْ ؤكانْ اكْثَرْ :: فيهْ لَمْدير ؤعادْ اشْريرْ

وذات هول في دكار للفنان القدير محمد ولد اشويخ حضره الأمير الدان، عزف محمد وشگر الدان اعليه الكثير من اشگاره في العزف وهي عادة كثيرا ما يمارسها الدان مع إيگاون لبعد غور مشرعه في أزوان، ثم أردف الدان قائلا: آن ابشوفتي أعل إيگاون الگبلة عنهم ما يعرفو اخبيط (الفايز)، هو الفايز حد لاهي يخبطو ارتب الثومة اعل لمهار ويفعل كذا للتشبطن إلين تنورل التدنيت، فغضب محمد ولد اشويخ وطرح التيدنيت قائلا للدان: انت ذا گاع اتبان أخبر فيه أراعيلك التندنيت وأخبطو.

و زار الفنان الكبير المختار ولد الميداح الأمير الدان في اندر، وركب أژوان ومدرسة الگبلة تختلف عن مدرسة تگانت بخصوص أردّاس وهو ضرب الجنبة بالاصبع ويكون في مدرسة الگبلة أثناء العزف العادي، لكنه في مدرسة أهل الحوض وتگانت يكون أثناء شد الشور، ولاحظ الدان أن المختار يردس أثناء العزف فأشار له بذلك فأجاب المختار:
الشور آن عند المبدَ :: شديتُ شدْ ءُ بيه إثباتْ
إرفدتُ فأوقات الرفدَ :: واطرحت فأوقات الطرحات

وكان الأمير الدان يأخذ على إيگاون الگبلة عنهم ما يصردو تيدناتنهم، وفي لقاء عابر مع لعور ولد انگذي في (إندر) صحبة الترجمان محمدن ولد أبنُ المقداد لاحظ الدان نفس الملاحظة وناقش محمدن في مسألة زين حس لعور.
سكت ولد أبنُ المقداد، فهو يعرف مدى جمال صوت لعور، و حسن ذائقة الدان, لكن الوقت لم يسعفه لسماعه.
وفي السنة الموالية جاء الأمير الدان في زيارته الموسمية لإندر ، فعقد له ولد أبنُ المقداد (هولْ متّسع) من لعور فطرب الدان أيما طرب فقال له ولد أبنُ المقداد:
لعور حسُوَ يحدْ عامْ :: لَوّلْ شاحنتْ افزَيْنُ
لعورْ راعِيهْ اليوم وامْ :: شِحانْ افْلعورْ عَينُ

أي كما تقول العرب: إن الجواد عَيْنُهُ فراره، وقول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة :: سبوح لها منها عليها شواهد

وكتب الدكتور محمدن حمينه ذات خاطرة:
قد لا يعرف كثير من الناس أن كتاب (سنن المهتدين) هو الذي عناه العالم الشنقيطي قديما إذ يقول:
الفكر في المسائل الصعاب :: يورث في القلوب داء رابي
دواؤه سماع صوت يحسن :: وذاك في (المواق) حكم بين
والمقصود بالمواق هنا كتابه (سنن المهتدين في مقامات الدين)
وقد لا يعرف كثير من الناس أن هذه الأبيات هي التي لحنها الفنان الرائع لعور بن انكذي في نحية معروفة من كيفانها :
لعور حس يحد عام :: لول شاحنت افزين
لعور راعيه اليوم وامْ :: شِحانْ افلعور عينُ

ولم نزل نسمع عن آمسگري ومرظ إيگاون، ندوية احبيب ومرظ أهل الميداح ومرظ أهل اشويخ....
وفي حصرة " آولِيگْ" قال الأديب الكبير ديديه ولد البصيري لأهل اشويخ:
منْ يومْ امْجِيكمْ لاَوْلِيگْ :: الهولْ إلِّ متْبايِنْ
بيهْ ابگْيتُ وابْگاوْ لِيگْ :: گاونْ منُّو لِمْحَايِنْ
فغضب أهل الميداح فسگراهم الأديب ديديه وخاصة المعلومة:
الهول الزين ابلا اخلاط :: ما ينجاه ابلخصومَه
ء لكلام الخاسر غير باط :: ينجالُ بالمعلومة

ويقول الأديب الكبير الطيب ولد ديدي في مرظ أهل اشويخ:
تفجارْ امَّلي زادْ شِيخْــ :: ــصَارَ بيني وأهلْ اشْويخْ
والكَرظَ يكانُو ايْـسيخْ :: تطوالْ المودوَّانَ
ءُكثرْتْ لردادْ ءٌ بيخْ بيخْ :: وَسَاغَ والعَـنْـعَانَ
عنُّو مصيوبْ ءُ ذَا انـْـسَـيْـخْ :: غَانِ عنُّو ملانَ
هومَ باطلْ مافيهم الـْــ :: عَـيْـبْ ءُ خَيْمِتْ هَيدانَ
منْ هيدانَ ماكط زلْ :: اعْليهم حدْ أحْــرَانَ
شِ امنْ الحَـسَانَ زادْ ولْــ :: هَــيدانَ والوزَّانَ

كان إيگاون ولا يزالون يحظون بالتبجيل والاحترام، وكلما هم أحد بالنيل منهم تذكر إلياذة الحماسي الخالدة:
سلاحْ اللّسنَ كانْ إنَ :: إورثناهْ امنْ أوائِلنَ

سِلاحْ اللّسْنَ كانْ أَنَّ :: وُورِثْنَاهْ أَمْنْ أَوَايِلنَّ
واتْمعْلَمْنَ .. واتْهَدَّنَّ :: لَينْ أَخلَعِنَّ گَاعْ أَسْهَاوْ
البظانْ ؤُ شَكُّ عَنَّ :: نِنْطَفْگُ وَللَّ نُچَهْچَاوْ
گُولُ لِلْگَومْ أَلْ تِتْمَنَّ :: لِگْطَاعْ أَنّحْنَ نُسَثْنَاوْ
فِالنّاسْ المَعلُومَ وِانَّ :: لِسْنِتْنَ كَانُ يُتَقَّاوْ
وِنّْ أَشْبَهْ حَدْ إِعُودْ أَفْخَيْرْ :: أَمعَانَ واشْبَه_ْ نِتْخَاوَاوْ
فِينَ ويلَ عَادْ أَلْ يِخْتَيرْ :: نِجَّفَاوْ أَلّا نِجَّفَاوْ

وكانت فاطمة السالمة بنت البُبّان فنانة عصرها بلا منازع طبقت شهرتها الآفاق وضرب الناس أكباد الإبل لسماع فنها وكانت مضرب المثل في الشهرة والغناء، فما أم كلثوم تغني بنيلها ربيع شباب النيل أوج ربيعه لتبلغ شسع نعلها تماما كالفنانة "مُلة " بنت آب فنانة عصرها في تگانت فحين زار المناضل الرمز النائب أحمدو ولد حرمه تگانت وهم بالمغادرة أبى عليه أهلها أن يرحل قبل أن تغني له الفنانة مٌلة فزيارة رمز بحجمه لا تكتمل إلا بتلك الحفاوة:
أُصَوّرْ لِ گط افْ مِلّه .. حِسّكْ يَ مُلـّه وُمَـوّرْ
ولينْ اجبرتك يَ مُلـَّـه :: إلحگتُ شِ ما يُصَوّرْ

وكانت لأحد مجاذيب اليداليين وهو المختار ولد محمذن ولد محمد اليدالي أغنية تسمى "عيشه رخمة " وكان يؤديها أداء بديعا متميزا بصوته النديّ الشجي وكان مجذوبا سليل مجاذيب وقد زكى العلامة محمد فال بن محمذن بن أحمد بن العاقل "ببها" علما هذه الأغنية ضاربا المثل بأن نهجها أعجز القيان بل وأعجز حتى فنانة عصرها فاطمة السالمة بنت الببان يقول ببها:
غناية المختار ما مثلها :: غناية من الخنا سالمه
قد عجز القيان عن مثلها :: وعجزت فاطمة السالمه

يقول فيها العلامة الشاعر امحمد ولد أحمد يوره:
من يدعي لابنة الببان مشبهة :: عند اللقاء بإذن الله ينهزم
إذا التقت من عيون الناس أربعة :: فإن واحدة منهن تحتشمُ

وقد توفيت فاطمة السالمة ودفنت عند "تندگصالَ" شمال مدينة روصو، وقد رثاها امحمد ولد أحمد يوره بقوله :
يا روضةً عند "تندگصالَ" حُيّيتِ :: ومن أذًى وصدًى في القبر نُجّيتِ
يا ذات صَوت وصِيت عند فقدهما :: لم يبق في الحي من صوتٍ ولا صِيتِ

وتزوج العلامة القاضي الشريف ولد الصبار المجلسي في الأشياخ "أهل الشيخ سعد بوه"،من السيدة الحِجّه بنت الشيخ، وذات أنس انعقد مجلس طرب للفنانة فاطمة السالمة وكان امحمد ولد أحمد يوره حاضرا مع أعيان لشياخ وحين رُكّب أزوان وتربعت فاطمة السالمة قام الشريف عن المجلس تاركا بيتين:
لا تعجبوا من قيامي عن مغنية :: إذا شدت قال ربات المزامر: "كُمْ"
فقد يليق بكم ما لايليق بنا :: وقد يليق بنا ما لا يليق بكم

وحين بلغ بالقوم الطرب مبلغه وفطمة السالمة تطويهم وتنشرهم وهم صرعى تخال أمردهم نشوان من طرب والشيخ من هزه عطفيه نشوانا، نظر امحمد وهو الضيف غير المعني نظرةٌ ثاقبة مِن مُقلَةِ خبيرٍ قل من ينظر بها، وقال بيتين مغلفين بمسحة صوفية لا يَحجبُهما عن القلب حاجب:
تكون لك الدنيا مواعظ كلها :: إذا أنت لم تحكم لها بالظواهر
ومن كان ذا لُبٍ فسيان عنده :: صفوف البواكي واصطكاك المزامر

انقضى الهول وانفض السامر ومضى كل إلى غايته، وكان الشيخ سيداتي بن الشيخ سعدبوه متزوجا بالسيدة آمنة بنت محمدفال بن ألمين بن محمذن بن آبني من "تمگله"، وله منها ابنة هي اسْحِيَه بنت سيدات، وتزوجها بعده العلامة زين بن اجّمد اليدالي ورحل بها إلى الزيرة قرب كرمسين حيث محظرته، وذات نجعة إلى كرمسين والزيرة مرالشيخ سيداتي قرب "حي لمرابط " وتطلق على حيّ زين بن اجمد ومحظرته فقرر المرور على زين والسلام عليه وعلي ابنته ربيبة زين ممتثلا قولة العلامة حامدٌ بن محمذن بن محنض باب بن اعبيد إن من غاب - أي ارتحل بحثا عن الميرة والزاد – ولم يلق زين بن اجّمد فكأنما رجع بخفي حنين.
استقبل ابن اجّمد ضيفه الشيخ سيداتي بما يليق من الحفاوة وأثناء المفاكهة في حديث طابت أفانينه من كل جانب ورقت حواشيه، قال الشيخ سيداتي لزين هل سمعت بيتي اشريف ولد الصبار لامحمد ولد أحمد يوره وتعريضه به في مجلس الطرب بأنه قد يليق بامحمد مالا يليق به؟
وكأنما أخذت العلامة زين نفسية أو حمية لولد أحمد يوره فأجاب الشيخ سيداتي بقوله: الأبيات ليست موجهة لامحمد
فقال سيداتي : لمن إذن ؟
فقال زين: الأبيات موجهة إليكم أنتم فامحمد خاطر وبراني والهول منعقد عندكم أنتم أهل الشيخ سعدبوه وفي خيامكم واشريف نسيبكم زوج ابنتكم فالأمر شأن داخلي لاعلاقة لولد أحمد يوره به وإن كان امحمد يضيف ابن اجّمد قد أجاب بطريقة غير مباشرة من خلال بيتيه " تكون لك الدنيا مواعظ كلها " .
سكت الشيخ سيداتي وحين رجع للنمجاط قصّ فحوى مادار بينه وبين زين بن اجّمد على أبيه الشيخ سعد بوه فكأن الشيخ سعدبوه "لم يتمونكْ" لكنه لنبل معدنه فرح أيضا لوجود ما يعاب عليه متمنيا أن يجد ألف هاج من طراز الشريف، يقول الشيخ سعدبوه:
أخبرني سيداتِ أن ابن اجّمدْ ::أخبره أن الشريفَ لافندْ
بشعره الجيد قد هجاني :: جزاه ربي أحسن الإحسان
يا ليتني وجدت ألفَ هاج :: مثل الشريف النيّر المنهاج
كلهم يُظهر ما فيها خفَا :: لعلها تأخذ نهج المصطفى
ويخبرونها بأنها تموت :: غدا وأن كل ذا سوف يفوتْ\

قال أولاد ديمان إن الشيخ سعد بوه غلبهم في الحلم، فهم يسكتون عن المسيء، وهو زاد بالمدح والدعاء الصالح.

وقال محمد ماء العينين ولد الشيخ سعدبوه في المجلس إن حذف التاء مع جمع المؤنث السالم في قول الشريف (قال ربات المزامر) مخالف لمذهب سيبويه وجمهور البصريين.
وفيما قاله محمد ماء العينين ، فإن مذهب الجمهور هو لزوم التاء في مثل هذا وإلى ذلك أشار في الطرة بعد قول ابن مالك:
وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى السَّالِمِ مِنْ :: مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مَعْ إِحْدَى اللَّبِنْ
قال في الطرة:
جريا على مذهب الجمهور ومنبها على مقابله ، وحكمها معهما كحكمها مع واحدهما خلافا للكوفيين فيهما والفارسي في الثاني .....الخ
وهولفظ التسهيل وقد تقدم لابن مالك في حكمها مع المفرد:
وَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمر :: مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حَرِ
وقال أحدهم عن مذهب مذهب الكوفيين والفارسي، (ماهُ سالك من الازلاق).
وقد أشار العلامة النحوي عبد الودود بن انجبنان إلى مقابل الأصح الذي هو مذهب الكوفيين والفارسي، ..بقوله:
أبوعلي الفارسي يقبل :: لديه جاء الفاطمات الفضل
كذلك الكوفة يقبلونا :: ويقبلون جاءت الزيدونا
وكان شيخ الشيوخ العلامة يحظيه ولد عبد الودود، حين يقول التلميذ في الطرة...خلافا للكوفيين ، يقول يحظيه:
(اتخطَ اتخطَ ذاك ولْ مالك لاه يوكل غيبةْ الكوفيين)
وإلى مذهب البصريين أشار العلامة الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم بقوله:
وجل بصرة مجيز لهما :: في ما سوى الجمع الذي قد سلما
فحيث أنّثَ ففعل ذكّرا :: مؤنثا وإن يُذكّر ذكّرا
وأما الاحتجاج بقوله تعالى ولله الحجة البالغة: (وقال نسوة) ، فالنسوة اسم جمع لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو امرأة وتأنيثها باعتبار الجماعة ولذا جاز حذف التاء معها فقياسها على جمع المؤنث السالم بعد ماتقدم قياس مع وجود الفارق فلم يصادف الاحتجاج محلا، ولم ينهض حجة.

ثم إن العلامة القاضي الشريف أنحى وألحن بحجته منا أهل الوقت فلوكان في مذهب الجمهور ما يساعد قوله لما خفي عليه فقد شهد له أهل زمانه بالمهارة والتفوق في النحو وفي غيره ، فهو إنما وجد شطرا من البسيط جميلا ( ؤلاحالت بينو امعاه التاء وامغرشين عنو حاس ابمذهب الكوفيين والفارسي).

لاحظ أحد الزملاء ملاحظة وجيهة، قائلا: رغم انسحاب العلامة اشريف ولد الصبار عن مجلس الهول فإنه أشاد بالفنانة فاطمة السالمة بقوله:
إذا شدت قال ربات المزامر: "كُمْ"

رغم هذا فإننا نشهد هذه الأيام الكثير من العري والعهر والإسفاف واتهنهين حتى لا أقول (هنون ألا هنون).

كامل الود

الأربعاء، 12 فبراير 2025

 فتح



حدّث السيد محمد عبد الرحمن بن أوفى بن يحظيه بن عبد الودود قال:
أخبرني محمدٌ الملقب إگليگِمْ بن محمدُّ بن حبيب بن لمرابط محمذن فال بن متالي أنّ ابّاه (يحظيه بن عبد الودود) أخبره وكان الوقت ضحى بين الكثيب المسمى (الغرد الزين) والبئر المسماة (الشريعة) وكانت معهما مريم بنت ألمّا
أخبره من غير سؤال أن والده عبد الودود وأخاه عبد الله سافرا نحو تيرس ومرّا بلمرابط محمذن فال بن متالي عند (أطويلَه) وكان عبد الله مريضا فمدح عبد الودود لمرابط بشعر حساني: أي لغن. يزوره فيه لشفاء أخيه عبد الله وأخذ عليه ورد الشاذلية، وتمسك عبد الله بورد القادرية الذي أخذه عن الشيخ سيديا، وقد شفي عبد الله من ذلك المرض سريعا وتوجها إلى تيرس حتى بلغا إلى جبيل صغير يسمى (تيوليت) فتوفي عبد الودود ودفن عنده وبعد ذلك صرت أجد روحه وروح بنت له شقيقة لي بـ(انوعمرت) أخبرتني والدتي ديَّ أنها أخت لي أكبر مني ماتت صغيرة ودفنت بـ(انتمارد أكشللي).

بعد ذلك أتت والدتي إلى لمرابط محمذ فال بن متالي وقالت له إن لها ولدا من الرجل الذي تتلمذ عليه وأخذ عليه الورد في زمن كذا ومات. وأن ولدها به مرض الصغار ولعله (اصفار) وتحب أن يشفى وأنها تجعل أمره بيده فأمرها لمرابط بصنع (تينكت) له وهو سويق بعرق الحديد وقال لها إنه إذا صام سيَصحّ وكان الأمر كذلك.

ويقول اباه إنه لما بلغ ذهب إلى الحسن بن زين لتعلم النحو ونزلوا موضعا يسمى (تلبركات) فأتاهم لصوص وأخذوا نوقا للحسن بن زين وفداها ابّاه بدراعتين كانتا عنده وأعطاه اللصوص دراعة بالية فيها رائحة البارود وبعد ذلك أتانا رجل من أهل (إگدَيحيَ) آخر النهار سألناه من أين أتى فأخبرنا أنه أصبح عند حي لمرابط محمذن فال عند (العرگوب) فسكتُ وأضمرت في نفسي الذهاب إلى لمرابط.

فلما كان الغد توجهت إلى (العرگوب) ووصلته عشية ونزلت عند خيمة رجل يعلم القرآن الصبيان، ولما أصبحنا قال لي: اذهب إلى لمرابط وكان موجودا في الفروة. وكان المسمى محمد بن سيد أحمد الكنتي لا يترك أحدا يدخل عليه، فلما دنوت منه سألني ماذا أريد، فأخبرته بمرادي، فأخبرني بأن لمرابط لا يلقى الناس قبل طلوع الشمس، ولما سمعنى لمرابط قال : (ذاك ولد ديَّ ادخل) فدخلت عليه فسلمت فوجدته مستقبل القبلة فأدخل رأسي بين ثدييه بينه وبين لباسه وعرك أذني ووضع يده بين كتفي وقال لي اخرج، فقال محمد بن سيد أحمد: ( يا هذا مغلاك)!
فرجعت باتجاه أهلي وكنت عطشان لأني تعشيت بشيء فيه اشركاش ولم أشرب ولما صرت جنوب الحاسِ غشي علي قليلا بسبب لا أعرفه إلا أنني وجدت اشريحَه من اللحم وقدحا صغيرا فيه لبن والجزء الأول من التسهيل، فأوّلت اشريحه بشرح الصدر والجزء بأول تسهيل الأمر.
قال لي اباه -يضيف إگليگِمْ- ولا يخفى تأويل هذا، فشربت اللبن وأخذت الكتاب ووصلت إلى الحسن بن زين ومكثت فترة وكنت أسمع التلاميذ بعد ذلك يقولون يحظيه فتح عليه بعد عودته من عند لمرابط محمذن فال بن متالي.

ويواصل محمد عبد الرحمن بن أوفى بن يحظيه: أخبرني إگليگِمْ أيضا أن لمرابط محمذن فال لما بلغ ذهب مع ابن خالته أمغر بن حبيب إلى رجل من إكمليلن اسمه المؤيد بن مصيوب وكتب عليه محمذن فال درسا من رأس آجروم ولم يفهمه أولا فرجع محمذن فال إلى معلمه ليفهمه الدرس فعالج ذلك جدا إلا أنه لم يفلح، فقال له المعلم: إنك لم تفهم فدع مكانك للتلاميذ الذين لهم أهلية في التعلم.
فخرج عنه وقد حزن حزنا شديدا فسأل ربه بهذه العبارة (اللهم ارزقني علما نافعا بلا سبب)، ونام فلما استيقظ من نومه وجد نفسه يعرف ما عند ذلك المعلم من المعرفة وطلب من صاحبه الذهاب إلى أهلهما وعادا إلى أهلهما وبعد ذلك بزمن مرّ المؤيد بن مصيوب المذكور بحي من تندغه فرأى عنده كثيرا من (اتهاله) فسأل عنه فقيل له هذا حي لشاب من تندغه يسمى محمذن فال فمر به فعرفه، فأحسن لمرابط مثواه وقرأ عليه المؤيد المنطق والبيان وذهب.

يقول العلامة المؤرخ المختار ولد حامد: إن لمرابط محمذن فال ولد متالي قال لوالدة يحظيه السيدة دَيَّه بنت محمذن: يحظيه إدور إعودْ أرْوَيّه، ويضيف المختار ولد حامد: ذيك ارْويَه صدرت منها مائة عالم..

ويواصل العلامة المؤرخ المختار ولد حامدٌ:
وقف اگليگم ولد محمدُو ، على ضريح شيخه يحظيه ولد عبد الودود(اباه)، فرأى الضريح وقد بني عليه عريش (تِهْلِي) منفرد ، وكان يعهد صاحب الضريح يوم كان حيا وقد أقام الطلبة حوله عشرات (اتهالَه)، فقال إنشاء وارتجالا:
أقولُ لَدُنْ رأيتُ ضريحَ شيخي :: ولا تُبقِي صروفُ الدهرِ حَيّا
لئن بُنيّ العريشُ عليكَ مَيْتًا :: لقد بُنيّ العريشُ عليكَ حَيّا

كامل الود

 بعض مآثر محمد عبد عبد الله ولد الحسن



حوّل الترجمان والإداري المحنك محمد عبد الله ولد الحسن (الداه) رحمه الله، إلى مدينة أطار، فحمد الناس سيرته وأثنوا عليه بالذي هوّ أهله، وبعد سنتين نقل من أطار إلى المجرية. فقال الشاعر الفذ أحمد ولد اعليّ متأسفا على نقل زميله الجواد الكريم الذي كفاه مؤونة السعي بكرمه الحاتمي:
وِلْ الْحَسَّـنْ مُـفَـكْـتِي عَادْ :: يَــلَّالْ امَّـكْ مَـاذَ فَـاتَــكْ
مِـنْ مِـيَّه ذَاتْ ؤُمِـنْ مِـعَـادْ :: حَگُ اعْـلَ گِـدْ امْجِـيَّاتَكْ
لِـمْـرُوَّه وِالـدِّيـنْ امْحَقِّيـنْ :: اليوم ؤفَكْـتَـاوْ امْسَاكِـينْ
الگَـلْـفَِـه گـوَّمْـهَا، وِالْـعَـيْـنْ :: جَجِّيهَا، وِاسْگِي نَخْلَاتَـكْ
وَاحْرَثْ گَُورْ إفْزرْ افْكَيْرِينْ :: يانَ وِاگْـعِدْ بَيْنْ امْناتَكْ
وِلْ الْـحَـسَّـنْ مُفكـتِي عـادْ...

حدّث الأديب الأريب الأستاذ عابدين ولد التقي أنه ذات لقاء مع محمد عبد الله ولد الحسن (الداه) رحمه الله في توجنين، أراد أن يصحح عليه الطلعه، فأخبره الداه أن الغريب هو سرعة انتشارها في وقت لم تكن فيه وسائل الاتصال متاحة.

يقول عابدين: قال الداه: جاء السلك بنقلي من أطار إلى تگِانت، فتجهزت في انتظار وصول شاحنة يحيَ ولد بوعماتو الذي يمارس النقل بين إندر وأطار، لأن عليّ أن أسلم في اندر وأتسلم منه كتاب التكليف بالمهمة إلى تگِانت، في هذه الأثناء قال أحمد ولد اعليّ طلعته، ووصل بعد يومين يحيَ ولد بوعماتو، ووضعنا الأمتعة في الشاحنة وانطلقنا من أطار باتجاه اندر.

وصلنا نواكشوط وبتنا فيه، وفي الصباح الباكر انطلقنا وكان الزمن شتاء، وعند وصولنا (آمِزّلَه) في آفطوط على بعد 71 كيلومترا على طريق لگِوارب توقفنا رأد الضحى للاستراحة وشرب الشاي، فأوقد ابرانتيات النار وقاموا بشواء (أعظام من اللحم) من (اسكيطه نشفانَه) يحملونها معهم، وغير بعيد منا كهل (امظحي شي من لغنم عندو) يبدون أنه آتٍ من افريگِ غير بعيد منا نازلين افذاك آفطوط.

رأى الكهل السيارة والنار فجاء على عادة فضول أهل البادية يستطلع الخبر في ذلك الفضاء المفتوح، وجلس يصطلي على النار وعندما جهز العمال اللحم، نادى عليّ يحيَ قائلا: وِلْ الْـحَـسَّـنْ
فقال الكهل: مُفكـتِي عـادْ...
قال يحيى مستغربا: ماذا قلت؟
قال الكهل: مُفكـتِي عـادْ
فقال يحيَ ول بوعماتو متعجبا: هذا شنهو
فقال الكهل: هذي بداية طلعة گِايلها حد من أهل أطار لرجل من أهل ذي ليد إل هون مفكتي من أطار وأهل هذا لفريگِ يعرظوها كاملين!

يقول محمد عبد الله ولد الحسن مخاطبا عابدين: فتعجبنا من طلعة قيلت في أطار قبل يومين تحكى على تخوم روصو، كيف طبّقت الآفاق وانتشرت في وقت لا توجد فيه أي وسيلة اتصال !!
/
ويقول الفنان لوليد ول دندنِّي في تحويل ولد الحسن من تمبدغة إلى أطار:
فَكْتاه المَخْزَن لآدْرَار :: اتْفَكْتِيَه ما تنْصْبَرْ
واسكِ يذاك من الزْكار :: فكتَ واتمعليم انْظَرْ
وگوامْ العِرضْ من آشْمار :: واگوامُ من شِ ينْكصَر
/

وتقول الدكتورة باتّه بنت البراء (Sama Rama) إن وفاة السيد محمد عبد الله ولد الحسن رحمه الله أظهرت وفرة معارفه، وانتشار معروفه الذي عم القاصي والداني، فتزاحمت وفود القبائل وفصائل مكونات المجتمع الموريتاني تشيد بفضائله ومزاياه مما لا حصر له.

ومن بين هذه الوفود كان وفد أهل شنگيطي، وقد تناول الحديث عدة رجالات فأفاضوا وأشادوا، ثم تدخل ولد بوكژان فقال:
- لم آت إليكم معزيا، فالرجل يعزى فيه وطن بأكمله، وإنما أتيت لأروي قصة حدثت لي مع هذا الرجل:
لقد عرفت منطقتنا سنة شهباء مات فيها الزرع، وجف الضرع، ويبس النخل، وتضررت الساكنة، فقرر أهل الرأي أن يجمعوا ما لدى الناس من نقود، يذهبوا للميرة في منطقة لعگيلات، قريبا من كيهيدي.
وتم اختيار ثمانية رجال للمهمة منهم أربعة كهول، وأربعة شبان كنت أحدهم، وترأس القافلة أسن القوم وهو ولد حبت.
سرنا ليالي وأياما في شدة الحر، ومعنا عشرون جملا، حتى وصلنا لعگيلات، فاشترينا الزرع، وحملنا أمتعتنا، وأخذنا طريق العودة، وحين وصلنا مدينة المجريه وكانت وقتها قرية صغيرة، توقفنا للسقيا، وسأل عريفنا عن الحاكم فيها ومعاونيه، فذكر له أحدهم أن ترجمان الحاكم رجل من بني ديمان.
تابعنا السير سحابة اليوم، ثم عرسنا للمبيت متعبين، وكانت مفاجأتنا الكبرى في الصباح اختفاء كل الجمال والميرة.
تشاورنا وقد بلغ منا اليأس مبلغا، فاقترح أحدهم أن نذهب إلى الأمير عبد الرحمان بن اسويد أحمد (الدان) أمير المنطقة، عساه يساعدنا في العثور على ضالتنا، ولكن ولد حبت -وكان حازما- أشار بأن الأولى أن نطرح القضية على الحاكم الفرنسي بالمجريه.
وقد اختارني لمرافقته، فسرنا راجلين طيلة اليوم وحتى منتصف الليل، ووصلنا القرية وأقدامنا لا تكاد تحملنا من شدة الجوع والتعب، فيممنا ضوء نار أمام خباء وسلمنا، فردت علينا ربة المنزل السلام.
سألناها عن مكان ترجمان الحاكم، فقالت لابنها المراهق:
-اذهب بهم إلى دار ولد الحسن.
وصلنا المنزل وألقينا التحية، فخرج شاب أسمر تشع عيناه ذكاء، طويل الأنف، يلبس دراعة زرقاء من الشگه.
رحب بنا واحتفى، وأدخلنا غرفة واسعة، ثم نادى أحد العمال، فما لبث أن جاء يحمل أقداح اللبن، وجلس إلى المواعين يعد الشاي، وكانت المرة الأولى التي أتذوق فيها طعم الشاي فلم يكن متاحا للصغار.
لم نكمل الشاي حتى جاء الشواء الناضج، فطعمنا، وبات الرجل يسامرنا حتى تأخر الليل، فاستأذن ودخل غرفته.
ولم يسألنا طيلة الحديث من نكون؟ ولا ما الذي جاء بنا؟
في الصباح جاء العامل باللبن، وجلس يعد الشاي،
وطلع علينا الرجل محييا، هاشا باشا، وقد لبس ثوب العمل وقال:
سأذهب عنكم إلى مقر العمل، وسترتاحون في منزلكم حتى أعود، ثم أردف:
- أريد أن أعرف من أنتم، وما هي مهمتكم؟
عندها قدم له ولد حبت تقريرا وافيا عن رحلتنا، وما حدث للجمال والأمتعة، فقال:
-أمامكم طريقان لحل المشكلة؛
الأولى: أن تذهبوا معي إلى هذا النصراني وسأبلغ حجتكم تمام الإبلاغ، ولكن لتعلموا أن الحاكم لا يد له على قطاع الطرق في الصحارى الشاسعة.
والثانية: أن يكتب لكم هذا المرابط -يقصد نفسه- بخطه المعوج رسالة إلى الأمير الدان بن اسويد أحمد، فلن يألو جهدا في مساعدتكم.
فقال ولد حبت، نختار الثانية، فرجع إلى غرفته وجاءنا بورقة، صرها ولد حبت في طرف لثامه.
رجع إلينا وقت الزوال، فمدت المائدة، وتناولنا الشاي، ثم قال: -إذن على بركة الله، وخبروني بما سيحدث معكم.
كسا كلا منا دراعة جديدة، ولثاما، وسروالا، وحين خرج لتوديعنا، وجدنا جملين ذلولين قد شدت عليهما (عبيديتان)، وعلقت على أحدهما ذبيحة، ووطاب لبن، وقالبان من السكر، وصرة من الشاي.
ركبنا الراحلتين وقد ارتفعت المعنويات، وسرنا سيرا حثيثا حتى وصلنا الجماعة، فاشتووا وارتووا، وبتنا بخير ليلة، وفي الصباح توجهت مع ولد حبت إلى مكان الحله حيث الأمير الدان، وحين وصلنا وجدناه وقد تحلق من حوله الرجال، فسلمنا فرد السلام.
خاطبه ولد حبت قائلا:
- لقد أرسلنا إليك محمد عبد الله ولد الحسن بهذه الرسالة، فهلل ورحب، وأخذ الرسالة ونظر فيها، ثم نادى على أحدهم وقال:
- خذ رجالك واضرب في هذه الصحراء الشاسعة، فلا أريد أن تغرب شمس هذا اليوم، وهؤلاء القوم يفتقدون قيد جمل من جمالهم.
وأكرمنا الدان أيما إكرام، وحين عدنا مساء، وجدنا الجمال بكاملها، والزرع وقد زاد حمل بعيرين.

ومن الطريف أن ولد الحسن عندما حول ترجمانا للمجريه وقدم للأمير الدان قال:
(-آن ظَرْكْ امْعَدْلِينِّي انْصَارَه گِدْ رَدْحِتْهُمْ امَّشْيِينْ لِي بَيْنْ أصْبَاعْ امْنَ اَوْلَادْ دَيْمَانْ!)
فأجابه ولد الحسن:
(-الدَّانْ انْتَ مَانَكْ رَافِدْ اعْلِيَّ ادْبَشْْ، ؤُلَانَكْ دَاخِلْ بِيَّ وَنْگَالَه وِاكلَامَكْ إدَوْرْْ يُبَلَّغْ لِانْصَارَه مِتُفَاصِلْ )
وبدأت تلك الصداقة الحميمة بين الرجلين.
ويواصل ولد بوكزان:
في الصباح حملنا أمتعتنا وسارت القافلة ميممة المجريه لتودع ولد الحسن، وتشكر له حسن صنيعه معها، وترجع الجملين، فزاد الرجل في إكرامنا، وطلب أن نستريح يوما كاملا قبل مواصلة السفر، وكلف رجالا بالسهر على الجمال.
وحين تهيأنا للرحيل، كسا بقية الجماعة مثل ما كسانا، وزودنا بفائض من اللحم والشاي، ورفض استرداد الجملين قائلا :
لم أسلمهما ليرجعا إلي، وهكذا وجدنا حلا للحمولة الزائدة من الزرع.

كامل المروءة

  / ومن باب المداعبة، والشيء بالشيء يذكر كان الشريف عبد القادر رجلا صالحا، وكان يفرض على الناس (فِفتنًا) يهدونه له، والفِفتن قطعة نقدية كانت...